الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقسوته، بحيث يعجز القلم عن تصويره بحال، وقد شهدت شيئاً من ذلك بنفسي وعايشت ما يعجز الخيال الشاخص عن تصوره، وأحتسب ذلك عند الله تعالى .. إلا أن هذا كله لا يزن شيئاً أمام ما أوذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعويق رسالته، ووضع العقبات أمامها، وهذا درس للدعاة إلى الله .. وأسأل الله الشهادة في سبيله آمين آمين آمين!
بيد أن جماهير القبائل العربيّة، وفيهم عقلاؤهم وحكماؤهم، وذوو رأيهم كانوا يرجعون من مواسمهم، ولا حديث لهم إلا في شأن الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم وشأن الدعوة إلى الله تعالى!
وكان صدى ذلك يرجع في آفاق مكة، فيصك آذان ملئها وزعمائها، ويلج إلى قلوبها وأفئدتها فيحرقها، فرعبت قريش رعباً شديداً، وداخلها خوف أقلقها، فأقامها وأقعدها، فهي قد فشلت في كل ما دبرت وقدّرت في مناهضة دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فقد مكرت به لتقتله - كما سيأتي- وقد دبّرت له كل ما تمخضت عنه قرائح ملئها من السوء والتعذيب والإيذاء .. وها هي ذي ترى بأعينها دعوته تسري إلى العرب في منازلهم، ويتحدث الناس عنها، ويتجاوز الحديث عنها الغوغاء والجماهير إلى الحكماء والعقلاء وذوي الرأي من الشعراء والخطباء والحنفاء الذين أدركوا ذرواً من الحنفيّة ملة إبراهيم عليه السلام، فتعلّقوا به انتظاراً لبعث خاتم الأنبياء والمرسلين!
26 - موقف الوليد بن المغيرة:
وسبق أن عرفنا كيف اجتمع ملأ قريش وعباهلتها إلى طاغيتهم، شيخ الكفر، أشيب بني مخزوم، ومديان العرب وصاحب ثرائهم، ومالك ناصية
تجارتهم، وصاحب خزائم ربويّاتهم: الوليد بن المغيرة، وكان قد عتا في سنه، فبلغ من الهرم عتيًّا، وقد حضر الموسم -كما سبق- فقال لهم:(1)
يا معشر قريش، إِنه قد حضر هذا الموسم، وإِن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة (2) الكاهن ولا سجعه (3)، قالوا: فنقَول مجنون، قال: لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنْقَه، (4) ولا تخالجه (5)، ولا وسوسته (6)، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كل رجزه، وهزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، (7) فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفْثهم ولا
(1) ابن إسحاق معلقاً: 1: 334 - 336، والطبري موقوفاً عن ابن عباس، وقد صرح عنده بالسماع 14: 157، وأبو نعيم من طريق ابن إسحاق عن سعيد بن جبير: الدلائل: 1: 332، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مختصراً: الدر المنثور: 6: 282، والواحدي: أسباب النزول من غير طريق إسحاق: 295 مختصراً، وفي سنده إسحاق بن إبراهيم الدبري، انظر: الميزان: 1: 181.
(2)
الزمزمة. كلام خفي لا يسمع.
(3)
السجع: أن تتوافق الفواصل في الحرف الأخير.
(4)
يريد الاختناق الذي يصيب المجنون.
(5)
التخالج: اختلاع الأعضاء وتحركها من غير إرادة.
(6)
الوسوسة: ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان.
(7)
قوله: رجَزه وهَزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه: أنواع من الشعر.
عقدهم (1)، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إِن لقوله لحلاوة، وإِن أصله لعذْق (2)، وإِن فرعه لجَناه (3)!
قال ابن هشام: ويقال لغَدق، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبُل الناس (4) حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلا حذّروه إيّاه، وذكروا لهِم أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بنِ المغيرة، وفي ذلك من قوله:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} (المدثر).
وروى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: يا عم، إِن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإِنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟
(1) إشارة إلى ما كان بفعل الساحر من أن يعقد خيطاً، ثم ينفث عليه، ومنه قوله تعالى:{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقدِ (4)} (الفلق).
(2)
العذق: الكثير الشعب والأطراف في الأرض، ومن رواه بالغين المعجمة والدال المهملة فمعناه كثير الماء!
(3)
أي فيه تمر يجنى.
(4)
أي طرقهم، واحدها: سبيل.
فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا!
ووالله، إِن لقوله الذي يقول حلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإِنه ليعلو وما يُعلى عليه، وإِنه ليحطم ما تحته!
قال: والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعنِي أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت:{ذَرْنِي وَمنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} (المدثر).
وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وابن جرير، وابن إسحاق وابن المنذر وغير واحد (1). هذا، وقصد الوليد بن المغيرة باستماعه للقرآن الكريم، وقوله فيه لأول ما قرعت آياته قلبه وعقله ما قال من مدح وثناء، ثم إنكاره كذباً بعد ما فكر في دنياه ومكانته من قومه، وتعبير أبي جهل له قصة تحتمل التكرار، وأنها وقعت له أكثر من مرّة، وهذا هو الأظهر والأدرب إلى التوفيق بين روايات القصة، ولا سيما أنها روايات تختلف اختلافاً جوهرياً في تسمية من سمع منه الوليد القرآن!
وتكرار قصة سماع الوليد للقرآن يشبه أن يكون أمراً طبيعيًّا، وخصوصاً، أن الوليد في عتوّ كفره وجحوده ومكانته الراسية من الماديّة الوثنيّة لا يتعجل الحكم، ولابدّ له من تكرار السماع وتعدّد مصادره، لينظر مقدار الاختلاف والتوافق بين هذه المصادر في أسلوب ما يسمع وحقائقه ومعانيه ومقاصده، فلما
(1) الحاكم: 2: 506 - 507، وانظر: تفسير الشوكاني: 5: 326.