الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواقف العامة من الدعوة:
ونبصر مواقف العامة من الدعوة، ونحن نذكر مواقف الذين كان منهم من يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ بما يسمع من هداية فيحسن الرد .. ومنهم من يقف حائراً لا يخطو إلى ساحة الإيمان
…
ومنهم من كان يسيء الردّ في جفوة جاهلة، وعنجهيّة فاجرة، وبأو مغرور .. مع أدب الدعوة المعروف .. ومنهم من طمع واشرأبّ للدنيا، ورأى في عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم في مضاربهم ومنازلهم يدعوهم إلى أن يؤوه حتى يبلّغ رسالة ربّه -كما أسلفنا- فرصةً سانحةً لتحقيق مآربه من العلوّ في الأرض، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُفهمهم في هدوء ويقين أن أمره وأمر دعوته ورسالته ليس أمر دنيا تحاز، ولا مطامع فيها تنجز، ولا مآرب من مظاهرها تحقَّق .. وإنما أمره أمر دعوة إلى الله الحق، مالك الدنيا والآخرة، وهو صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، والأمر كله بيد الله يضعه حيث يشاء، وهو في أشدّ الحاجة إلى من يحرزه ويأويه ويحفظه مما يُراد به من القتل والفتك .. إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس عليه إلا بلاغ رسالة الله، وليس أن يعد أحداً بأن الأمر بعده له؛ لأن الملك لله تعالى يؤتيه من يشاء، وليس وراء ذلك منزلة من منازل الصدق والأمانة والإخلاص!
قال ابن إسحاق (1): حدثني الزهري أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن ععصعة، فدعاهم إلي الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم- يقال له:(بَيحرة بن فراس)، قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة (الخير)
(1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 76، صرح ابن إسحاق بالسماع، وسنده مرسل، والطبري: التاريخ: 2: 350 - 351، وأبو نعيم:"الدلائل": 10 وفيه الكلبي، وابن سعد: الطبقات مختصراً: 1: 216 من طريق الواقدي.
ابن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: والله! لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إِن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال صلى الله عليه وسلم:"الأمر لله يضعه حيث يشاء"!
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإِذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأَبَوْا عليه!
قال ابن إِسحاق: فلما صدر الناس رجعتْ بنو عامر إِلى شيخ لهم، قد كانت أدركتْه السنّ، حتّى لا يقدر أن يوافي معهم الواسم، فكانوا إِذا رجعوا إِليه حدّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلمَّا قدموا عليه ذلك العام سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتىَ من قريش، ثم أحدُ بني عبد المطَّلب، يزعم أنه نبيّ، يدعونا إِلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إِلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ؟ هل لذُناباها من مطلب؟ والذي نفسُ فلان بيده! ما تقوّلها إِسماعيلي قطّ، وإِنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم!
قال ابن إِسحاق: فكان رسول صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالوسم أتاهم يدعو القبائل إِلى الله، وإِلى الإِسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهُدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكّة من الدرب، له اسم وشرف، إِلا تصدَّى له، فدعاه إِلى الله، وعرض عليه ما عنده!
قال ابن إِسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاريّ، ثم الظّفَريّ، عن أشياخ من قومه، قالوا:
قدم سويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عوف، مكّة حاجًّا أو معتمراً، وكان سويد إِنما يسمّيه قومه فيهم:(الكامل)، لجَلده وشعره، ونسبه، وهو الذي يقول:
ألا ربَّ مَنْ تدعو صديقاً ولو ترى
…
مقالتَه بالغيب ساءك ما يفري (1)
مقالته كالشهد ما كان شاهداً
…
وبالغيب مأثور (2) على ثُغْرة النحر (3)
يسرُّك باديه وتحت أديمه
…
نميمةُ غِشٍّ تَبْتَرِي (4) عَقب (5) الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتِمٌ
…
من الغِلِّ والبغضاء بالنّظر الشّزر (6)
فرِشْني (7) نجير طالما قد بَرَيْتَنِي (8)
…
فخير الموالي من يريش ولا يَبْرِي
(1) أي ما يقطع في عرضك.
(2)
المأثور: السيف الموشّى.
(3)
الثغرة: الحفرة: التي في الصدر.
(4)
أي تقطع.
(5)
العقب: عصب الظهر.
(6)
النظر الشزر: نظر العدو.
(7)
أي قوِّني.
(8)
أي أضعفتني.
وهو الذي يقول: ونافرَ (1) رجلاً من بني سُلَيْم، ثم أحد بني زِعب بن مالك مائة ناقة، إِلى كاهنة من كهّان العرب، فقضت له، فانصرف عنها هو والسُّلميّ، ليس معهما غيرها، فلمَّا فرقت بينهما الطريق، قال: ما لي يا أخا بني سُلِيم، قال: أبعث إِليك به، قال: فمن لي بذلك إِذا فتَّني به؟ قال: أنا، قال: كلاّ، والذي نفس سويد بيده، لا تفارقني حتى أوتَى بمالي، فاتخذا، فضرب به الأرض، ثم أوثقه رباطاً ثم انطلق به إِلى دار بني عمرو بن عوف، فلم يزل عنده، حتى بعثت إِليه سُليم بالذي قال، فقال له في ذلك:
لا تحسبَنِّي يا بن زعب بن مالك
…
كمن كنت تِرْدى بالغُيوبِ وتَخْتِل (2)
تحوَّلتَ قِرْناً إِذ صُرِعتَ بِعزَّةٍ
…
كذلك إِن الحازم المتحوِّل
ضربْتُ به إِبطَ الشمال فلم يزل
…
على كل حَالٍ خدُّه هو أسفل
في أشعار كثيرة كان يقولها: فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إِلى الله وإِلى الإِسلام.
فقال: له سويد: (فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان -يعني حكمة لقمان- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعْرِضْها عليّ" فَعرَضَها عليه، فقال له: "إِن هذا الكلام
(1) أي حاكم.
(2)
أي تخدع.