الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
43 - حوار عقول:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصابر القوم، ويصبر على جفوة الجفاة منهم، ويقدّر المهذّبين منهم قدرهم، ويعرف لهم مكانتهم، ولو لم يجيبوه إلى دعوته تشرّعاً بمكارم الأخلاق!
ومن القبائل التي عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليها، ودعاها إلى الإسلام فأبوا: كندة، وفيهم سيّدهم مليح -أو فليح (1) - وبنو عبد الله بن كلب، وبنو حنيفة، وكان ردّهم عليه قبيحاً، (2) وبنو عامر بن صعصعة، وقال رجل منهم يُدعى بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب .. أرأيت إن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال:"الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء" قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك! (3)
ومحارب بن حصفة، وفزارة، وغسّان، ومرّة، وسليم، وعبس، وبنوا النضر، وبنو البكاء، وعذرة، والحضارمة (4)، وربيعة، وبنو شيبان الذين كان فيهم وعلى رأسهم: مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، وقد تعلّلوا بحجج، منها الرغبة في التريّث لحين أخذ مشورة -من وراءهم- من قومهم!
(1) ابن إسحاق بإسناد منقطع: ابن هشام: 2: 73، والسير والمغازي: 232، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية:242.
(2)
السابق.
(3)
السابق، ناقلاً عن: ابن سعد: 1: 216 - 217 من حديث الواقدي.
(4)
عيون الأثر: 1: 153 وما بعدها بتصرف، وانظر: محمَّد رسول الله: 2: 275 وما بعدها.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يصحبه في لقاءاته وفود العرب في منازلهم من الموسم أبو بكر الصديق، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما!
ففي حديث عبد الله بن عباس عند صاحب عيون الأثر وغيره (1) عن عليّ ابن أبي طالب في خروجهما هو وأبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، قال عليّ: وكان أبو بكر في كل خير مقدّماً فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمّي، هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، ومثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر رضي الله عنه، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلّة، فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد، فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوّكم؟ فقال مفروق: إنا لأشدّ ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشدّ ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرّة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله، فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّي رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني؛ فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد".
(1) المرجع السابق.
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام).
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريشٍ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل).
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذّبوك، وظاهروا عليك، وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: هذا هانئ بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإنّي أرى إن تركنا ديننا، واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، زلّة في الرأي، وقلّة؛ نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر، وكأنه أحبّ أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى بن حارثة، شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، واتباعنا دينك، لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صَريي (1) اليمامة والسمامة (2)،
(1) بفتح الصاد تثنية صَرى، وهو الماء الذي يطول اسنقاعه.
(2)
في محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 277 (صيري اليمامة والسماوة).