الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهوديّ خلفي فتعالى فاقتله، إِلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" (1). واليهود يعرفون هذا، ومن ثم فهم يزرعون حول ما يقيمون من مستوطنات شجر الغرقد، ولكن الوحي يذكر بأن النصر حق!
وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقاتلكم اليهود، فَتُسَلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهوديّ ورائي فاقتله"(2).
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} (الروم)!
12 - إسلام عمر الفاروق:
هذا، وكان عُمر بن الخطاب من ألدّ خصوم الإِسلام، وكان معروفاً بحدّة الطبع، وقوّة الشكيمة، وكثيراً ما لقي بعض المسلمين منه صنوفاً من الأذى والتنكيل (3)!
(1) البخاري: 56 - الجهاد (2926)، ومسلم (2922)، وأحمد: 2: 53، والطبراني: مسند الشاميين: 4: 227 (3236).
(2)
البخاري: 61 - المناقب (3593)، وانظر (2925)، ومسلم (2921)، وعبد الرزاق (20837)، وأحمد: 2: 121 - 122، 131، 135، 149، والترمذي (2236)، وأبو يعلى (5523)، والبغوي (4246)، والطبراني: الأوسط (9161)، والآجري: الشريعة: 381، والبيهقي: 9: 175، وابن حبان (6806).
(3)
انظر: السيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 212 وما بعدها، وأحمد: فضائل الصحابة: 1: 278.
وحسبنا أن نذكر ما رواه البخاري عن قيس، قال: سمعت سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفَيل في مسجد الكوفة يقول: والله! لقد رأيتني مُوثِقي، وإِنّ عمر لَمُوثقي على الإِسلام قبل أن يُسلم عُمر .. !
وفي رواية: يقول للقوم: لو رأيتُني موثِقي عمر على الإِسلام، أنا وأخته، وما أسلم .. (1)!
قال ابن حجر: والمعنى رأيت نفسي وإن عمر لموثقي على الإِسلام، أي ربطه بسبب إسلامه، إهانةً له، وإلزاماً بالرجوع عن الإِسلام (2)!
ويطول بنا الحديث في ذكر ذلك!
واختلف في قصة وتاريخ إسلامه!
قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر فيما بلغني (3) أن أخته فاطمة بنت الخطّاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت، وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر!
وكان نُعيم بن عبد الله النحّام، رجل من قومه، من بني عديّ بن كعب قد أسلم، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه، فَرَقاً من قومه!
وكان خبّاب بن الأرَت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب، يقرئها القرآن!
فخرج عُمر يوماً، متوشّحاً سيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورهطاً من أصحابه، قد ذُكروا له، أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريبٌ من أربعين، ما بين رجال ونساء!
(1) البخاري: 63 مناقب الأنصار (3862)، وانظر (3867، 6942).
(2)
فتح الباري: 7: 176.
(3)
ابن هشام: 1: 423 وما بعدها.
ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قُحافة الصّدِّيق، وعليّ بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نُعيم بن عبد الله، فقال له:
أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصّابئ، الذي فرّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها، فأقتُله!
فقال له نُعيم: والله! لقد غَرّتك نفسُك يا عُمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمداً!
أفلا ترجع إلى أهل بيتك، فتُقيم أمرهم! قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: خَتَنُك وابن عمّك سعيد بن زيد، وأختُك فاطمةُ بنت الخطاب، فقد والله! أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما! قال: فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وعندهما خبّاب بن الأرت، معه صحيفة، فيها {طهَ} يقرئهما إيّاها، فلمَّا سمعوا حسّ عُمر، تغيّب خبّاب في مَخْدَعٍ لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمةُ بنتُ الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دَنَا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، فلمَّا دخل قال: ما هذه الهيْنمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله! لقد أُخْبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب، لتكُفّه عن زوجَها، فضربها فشجَّها، فلمَّا فعل ذلك قالت له أخته وختَنه: نَعم، قد أسلمنا، وآمنَّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!
فلمَّا رأى عمر ما بأخته من الدّم، نَدم على ما صنع، فارْعَوى (1)، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعْتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمَّد، وكان عمر كاتباً، فلمّا قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليَرُدَّنَّها إليها، فلمَّا قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له:
يا أخي إنك نجسٌ، على شركك، وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها {طهَ} فقرأها، فلما قرأ منها صدراً قال:
ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!
فلمَّا سمع ذلك خبّاب خرج إليه، فقال له:
يا عُمر، والله! إني لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإني سمعته أمس، وهو يقول:
"اللهم! أيّد الإِسلام بأبي الحكَم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"(2)!
فالله الله! يا عمر!
فقال له عند ذلك عمر: فدُلَّني يا خبّاب على محمَّد، حتى آتيه فأُسلم، فقال له خبّاب: هو في بيت عن الصّفا، معه فيه نفرٌ من أصحابه!
(1) أي رجع، يقال: ارعويت عن الشيء، إذا رجعتُ عنه وازدجرت.
(2)
الحديث رواه ابن إسحاق بلاغاً، والترمذي (3681) عن نافع عن ابن عُمر، وزاد: وكان أحبّهما إليه عمر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث ابن عمر، وابن سعد: 3: 267، وأحمد: 2: 95، وفضائل الصحابة (312)، وعبد بن حميد (759)، والحاكم: 3: 83، والبيهقي:"الدلائل": 2: 215216، وابن حبان (6881).
فأخذ عمر سيفه فتوشّحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلمَّا سمعوا صوتَه، قام رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فَزع، فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشّحاً السيف، فقال حمزة ابن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ائْذن له"!
فأذن له الرجل، ونهض إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجرته، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذةً شديدةً، وقال:"ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله! ما أرى أن تنتهي، حتى يُنزل الله بك قارعةً"!
قال عمر: يا رسول الله! جئتك لأُومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله!
قال: فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرةً، عَرَف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم!
فتفرّق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عَزُّوا في أنفسهم، حين أسلم عمر، مع إِسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم!
فهذا حديث الرواة من أهل المدينة، عن إِسلام عمر بن الخطاب، حين أسلم (1)!
وذكر ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه كان يقول:
كنت للإسلام مباعداً، وكنت صاحب خَمر في الجاهليّة، أحبّها،
(1) ابن هشام: 1: 423427.
وأسرّ بها، وكان لنا مجلس، يجتمع فيه رجال من قريش بالحزْورة، عند دُور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلةً أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد منهم أحداً، قال: فقلت: لو أني جئت فلانا الخمّار، وكان بمكّة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمراً فأشرب منها، قال: فخرجت فجئته فلم أجده، قال: فقلت: لو أنّي جئت الكعبة، فطفت بها سبعا أو سبعين، قال: فجئت المسجد، أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلّي استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاّه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني، قال: فقلت: حين رأيته، والله!
لو أنّي استمعت لمحمد الليلة، حتى أسمع ما يقول! قال: فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروّعنّه، فجئت من قبَل الحجْر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يُصلَّي، يقرأ القرآن، حتى قمتُ في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، قال: فلمَّا سمعت القرآن رقّ له قلبي، فبكيت ودخَلَني الإِسلام، فلم أزل قائماً في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن حُسيْن، وكانت طريقه، حتى يَجْزع المسعى (1)، ثم يسلك بين دار عبّاس ابن المطلّب، وبين دار بن أزْهر ابن عبد عوف الزهري، ثم عدى دار الأخنس ابن شَريق، حتى يدخل بيته، وكان مسكنه صلى الله عليه وسلم في الدار الرَّقْطاء (2)، التي كانت بيديْ معاوية بن أبي سفيان!
(1) أي يقطعه.
(2)
أصل الرقطاء: التي فيها ألوان، وكذلك الأرقط.
قال عمر رضي الله عنه: فتبعْتُه حتى إذا دخل بين دار عبّاس، ودار ابن أزْهر، أدركته، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسّي عرفني، فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّي إنّما تبعتُه لأوذيه فَنَهَمَني (1)، ثم قال:
"ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ "
قال: قلت (جئت) لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله!
قال: فحمدَ اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"قد هداك الله يا عمر". ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته!
قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان (2)!
وقال: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عُمر عن ابن عمر، قال: لما أسلم أبي عُمر قال: أيّ قريش أنقلُ للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجُمحي! قال: فغدا عليه! قال عبد الله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمْتَ يا جميل أنّي قد أسلمت ودخلت في دين محمَّد؟ قال: فوالله! ما راجعه، حتى قام يجرّ رداءه، واتّبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إِذا قام على باب المسجد، صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول المسجد، أَلا إِن عُمر بن الخطّاب قد صبا! قال: ويقول عمر مِنْ خلفه: كذبَ، ولكنّي قد أسلمت، وشهدت أن لا إِله إِلا الله، وأن محمدًا عبده
(1) معناه زجرني.
(2)
ابن هشام: 1: 427، 428.
ورسوله! وثارُوا إِليه، فما برَح يُقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم! قال: وطَلحَ (1)، فقعد، فقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله! أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم، أو تركَتموها لنا! قال: فبينا هم على ذلك، إِذ أقبل شيخ من قريش، عليه حلَّة حِبْرة (2)، وقميص موسى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صَبَا عمر، فقال: فَمَه، رجلٌ اختار لنفسه أمْرًا، فماذا تريدون؟ أتَرْون بني عديّ بن كعب، يُسلمون لكم صاحِبَهُم هكذا! خَلُّوا عن الرجل (3)! قال: فوالله! لكأنما كانوا ثوباً كُشِط عنه! قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، مَن الرجل: الذي زجَر القوم عنك بمكّة يوم أسْلمت، وهم يقاتلونك؟ فقال: ذاك، أيْ بُني، العاص بن وائل السَّهمي (4)! قال ابن هشام: وحدّثني بعض أهل العلم أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زَجَر القوم عنك بمكّة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك، جزاه الله خيراً؟ قال: يا بنيّ، ذاك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيراً!
قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال:
(1) معناه أعيا، والبعير الطليح هو المعيي.
(2)
الحبرة ضرب من برود اليمن.
(3)
لفظَه هكذا هنا اسم سمّي به الفعل، ومعناه لا يحتاج معها إنى زيادة، وظاهر: معناه عادتهم.
(4)
ابن هشام: 1: 429 - 430، وسنده صحيح، وابن حبان من طريق ابن إسحاق: موارد الظمآن: 535، وأبو نعيم: الحلية: 1: 41 وفي سنده أسامة بن زيد بن أسلم، ضعيف: انظر: الميزان: 1: 174، والبزار: كشف الأستار: 3: 171، 172، وقال الهيثمي: "المجمع: 9: 65 وفيه النضر أبو عمرو متروك.
قال عمر: لمَّا أسلمت تلك الليلة، تذكّرت أيّ أهل مكّة أشدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوةً، حتى آتيه فأخبره أنّي قد أسلمت. قال: قلت: أبو جهل وكان عمر لحَنْتَمَةَ بنت هشام بن المغيرة، قال: فأقبلت حين أصحبتُ حتى ضربتُ عليه بابه، قال: فخرج إليّ أبو جهل، فقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، ما جاء بك؟
قال: جئت لأخبرك أنّي قد آمنت بالله وبرسوله محمَّد، وصدّقت بما جاء به!
قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبّحك الله، وقبّح ما جئتَ به (1)!
وجعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة .. ومن وجه آخر عقب هجرة الحبشة الأولى (2)!
وفي رواية للبخاري قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
لمَّا أسلم عمر، اجتمع الناس عند داره، وقالوا: صبأ وأنا غلام فوق ظهر بيتي فجاء رجل عليه قَباء من ديباج، فقال: قد صبأ عمر، فما ذاك؟ فأنا له جار، قال: فرأيت الناس تصدّعوا عنه، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: العاص ابن وائل (3)!
قال ابن حجر: قوله (وأنا غلام) في رواية أخرى أنه (كان ابن خمس سنين)، وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو
(1) ابن هشام: 1: 430.
(2)
انظر: فتح الباري: 7: 182.
(3)
63 مناقب الأنصار (3865)، وانظر (3864).
بسبع؛ لأن ابن عمر .. كان يوم أحد ابن أربع عشر سنة، وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين (1)!
وهنا نذكر ما رواه الترمذي وغيره، بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2):"اللهم! أعزَّ الإِسلام بأحبَّ هذين الرجلين إِليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال:
وكان أحبَّهما إِليه عمر!
ويروي أحمد وغيره عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: فَضَلَ الناسَ عُمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربع: بذكر الأسرى يوم بدر، أَمَرَ بقتْلهم، فأنزل الله عز وجل:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} (الأنفال)! وبذكره الحجاب، أمرَ نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يَحْتَجبن، فقالت له زينب: وإِنك علينا يا ابن الخطاب، والوحي ينزل علينا في بيوتنا، فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53)! وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: "اللهم! أيّد الإِسلام بعُمر"! وبرأيه في أبي بكر، كان أول الناس بايعه (3)!
(1) فتح الباري: 7: 178.
(2)
الترمذي (3681)، وابن سعد: 3: 267، وأحمد: 2: 95، وفضائل الصحابة (312)، وعبد بن حميد (759)، والحاكم: 3: 83، والبيهقي:"الدلائل": 2: 215، 216، وابن حبان (6881)، وانظر: ابن هشام: 1: 452، 426، والمجمع: 9: 61، 62.
(3)
أحمد: 1: 456 وسنده حسن لغيره، وانظر: فضائل الصحابة (338، 339)، والبزار (2505) زوائد، والشاشي (555)، والطيالسي (250)، والدولابي: الكنى: 2: 142، والطبراني (8828)، والمجمع: 9: 67.
وأصبح عمر الفاروق رضي الله عنه رجل الإِسلام (1)، وبطل الدعوة الإِسلاميّة التي ستقوّض بنيان الجاهليّة، وتقضي قضاءً مبرماً على الوثنية في شتّى أشكالها، وتزيل الشرك على اختلاف ألوانه، وتهدم دعائم المجد الماديّ الزائف، وتبخع الطغيان الظلوم، وتبني الحياة من جديد على أسس من العدل والحق والمواساة، بنياناً يجعل من الإنسانيّة كلها في إخائها وتعاطفها وتوادّها وتعاونها على البرّ والتقوى جسداً واحداً، تتقمصه روح واحدة، هي روح البرّ والرحمة!
وصار عُمر الفاروق الرجل الثاني في جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فإذا كان أبو بكر الصدّيق صلى الله عليه وسلم هو الرجل الأوّل في إعادته رَسَن الإِسلام إلى غربه، وفي توطيد أركان الدعوة بعد أن تزلزلت الحياة الإِسلاميّة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أعقب ذلك من محاولة تفكّك عروة المجتمع الإسلامي وانفراط عصامه، بموقفه يومئذ من الخلافة والردّة موقفاً انفرد به في تاريخ الإِسلام، حزماً وعزماً، وقوة تدبير، وشجاعة قلب، واستقامة رأي، وعلوّ حجّة، وسرعة حركة في التوجيه، وإحكام ضربات حاسمة، ردّت العقول الثائرة إلى مرابضها، والعقول الفاترة إلى ثورتها، وسلطان الإِسلام إلى أفقه، ووحدة المسلمين إلى منهجها في السير برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى غايتها وأهدافها في فتح القلوب، وإيقاظ العقول!
فإن عُمر الفاروق رضي الله عنه هو الرجل الأوّل في إقامة دعائم الإِسلام، نظاماً وحكماً، لم تعرف الدنيا له مِثْلاً في العدل، وإقامة الحق، واستقامة السلوك، وتطبيق أحكام الإِسلام، على الأفراد، مهما كان شأنهم، وعلى الجماعات، مهما عظم خطرها، وفي تحقيق الأسوة المرئيّة للناس بأبصارهم في نفسه
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1: 666 وما بعدها بتصرف.
وولده وسائر أهل بيته وقرابته أوّلاً، وعامة المسلمين ثانياً في سواء من أمرهم، لا يتميّز منهم أحد على أحد في الحق فيه، أو إعطائه له!
وعمر الفاروق رضي الله عنه أصبح بإسلامه عبقريّ الدنيا بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري عن عبد الله بن عمر من حديث طويل: "فلم أَر عبقَريًّا يَفْري فِريَّه"(1)!
فأي شيء يكون الإعجاز في صنع النفوس، وخَلْقها خلقاً جديداً، وإبداعها إبداعاً سويًّا، تتسامى به في تفكيرها وعملها وقوّة إيمانها، إذا لم يكن هذا الذي كان لعُمر الفاروق بإسلامه إعجازاً؟!
فإذا قلنا إن إسلام عمر كان نفحةً من نفحات الإعجاز في صنع النفوس الإنسانيّة في رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، لم يكن القصد إلى شيء من أساليب المجاز والرمز، ولا إلى شيء من المبالغة التعبيريّة، ونصاعة البيان، في تصوير ما صار إليه عمر الفاروق بإسلامه بعد جاهليّته من عظمة شخصيّة، وعبقريّة فكريّة، وألمعيّة عمليّة، لتضفي على هذا الحدث الخطير في تاريخ الحياة من الألوان ضرباً من الخيال الفضفاض، ولكن القصد إلى حقيقة الإعجاز الإنساني التي تميّزت به هذه الرسالة الخالدة، في صنع النفوس، وتربية الرجال، في مدارس آياتها، ومعاهد آدابها، وهي بطبيعتها الإنسانيّة ومصدرها الإلهيّ في غُنْيَة عن التحدّي بالمعجزات الماديّة التي تُكْره العقول على الإيمان بها؛ لأنها رسالة الإنسان جاء ته لتكشف له الحجب عن حقيقته، حتى يعرف نفسه ومكانه في الحياة، فهي رسالة تخاطب العقل والروح والقلب، وتحرّك الوجدان، وتثير العواطف والشعور والإحساس!
(1) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3682).
هي رسالة الإنسان ليعرف الكون كله .. أُنزلت لتطلب إلى العقل الإنسانيّ في إغراء واعد .. وتطلب إلى كل إدراك شعوري أن يعمل بكل ما أوتي من وسائل، وقوّة علم، ومعرفة ونظر وتفكير، وتجاوب عملية، على استكشاف عناصر الكون الطبيعيّة، وأسراره الروحيّة، إظهاراً لآيات الله، في كل ذرة من ذرّات الحياة فيه، ليهتدي بها الإنسان إلى معرفة خالق الكون، ومدبّر نظامه. معرفة برهانية، لا تعتمد على أوهام وأباطيل، ولكنها تعتمد على منطق الحق الذي تتضافر على الإيمان به قُوى الإدراك في الإنسان، فيخالط بردُ يقينها جذوة الإدراك العقلي في أوْج ذروتها!
كما يهتدي إلى معرفة مكانه من الحياة في هذا الكون العريض العميق، معرفة تقوده إلى أن يقرأ كتاب الكون، مستغرقاً في التأمّل، ليتبّين آيات الله تعالى في خلقه، وتدبيره، ليُخْلِص الإنسان التعبّد لله وحده!
ويهتدي كذلك إلى معرفة طرائق الإفادة من العناصر الطبيعيّة في هذا الكون، ووضعها موضع العمل التجريبي، بجميع ما يكون في استطاعته من أسباب توصله إلى الحصول على أكبر قسط من هذه الإفادة!
والإعجاز في إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه، هو الإعجاز الذي يحيي القلوب بعد موتها، فيبعثها من مرقدها حيّةً مؤمنةً بعد كُفر، عالمةً بعد جهالة، مهتديةً بهد ضلالة، عاملة ناهضة!
كذلك كان الإعجاز في إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه، هو الإعجاز الذي أحيا قلبه بعد موته في جاهليّته، فبعثه من مرقده في حمأة الوثنية، مؤمناً بالله وحده، عالماً بجلاله، مهتدياً بهديه، عاملاً نهّاضاً في سبيل عقيدته!
وهو الإعجاز الذي يوقظ العقول الغطيطة في مهاد الضلال، لتدرك حقيقة
الحياة على ضوء ما يسوق لها الإيمان بالله تعالى، من إشراق ينير لها طريق السير في دروب الحياة، وكذلك صنع إسلام عمر بعقل عمر، فأيقظه من غفلته، وأراه الحياة كما يراها الإسلام في هديه ورسالته!
وهو الإعجاز الذي يُحيل في لحظة من لحظات الزمن النفوس الجاحدة العاتية إلى نفوس مؤمنة وادعة، تأخذ من الحياة لتعطي، وتعطي لتفيد، وتتحرك لتعلَم، وتعلم لتعمل، وكذلك صنع إسلام عُمر بنفس عمر، فقد أحالها من جحود عات، وعتوّ جاحد، إلى نفس مشرقة الإيمان، عظيمة الإخلاص، أعطت أكثر مما أخذت، وأفادت أكثر مما استفادت، وتحرّكت فعلمت وعلّمت فعملت، فكان في الإِسلام أسوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مفخرة المفاخر في تربية الإسلام!
وهو الإعجاز الذي يبدّل في لحظة من لحظات الزمن القسوة الباغية في النفوس الطاغية، رحمةً حانيةً، ورقّةً عاطفةً!
وكذلك صنع إسلام عُمر بشخصيّة عمر، فقد بدّل قسوته وبغيه على أهل الحق والإيمان من المسلمين المستضعفين، رحمةً ورأفةً وإشفاقاً، وفي تاريخ عمر في الإِسلام من الشواهد على ذلك ما لا يُحصى عداً، وما لا يعرف لغيره من الرجال الذين أوتوا من السلطان والحكم ما أوتي عُمر الفاروق في الإسلام!
وهو الإعجاز الذي يجعل من الصلف المغرور، والغرُور المفتُون عزّةً وكرامةً، وكذلك صنع إسلام عمر في طبيعة عمر، فجعل منه قائداً يسوس الأمّة بالعزّة والكرامة، ويحبّ أن يرى فيها الشموخ والعزّة!
وهو الإعجاز الذي يجعل من إنسان وُلد ونَهد، وشبّ في جاهلية حمقاء، وبيئة شرّيرة عمياء، وحياة ضالّة جهلاء، إماماً للإنسانيّة، يهتدي
لها، ويهديها، ويقودها إلى أكمل مراتب الكمال في حياتها، وينهض بها إذ يرفع أمرها إلى أرقى درجات التحضّر الكريم، يسوسها بعدله وحكمته، ويأسو جراحها برحمته، ويحمل عنها عبء مسؤوليّتها بأرفع وأجلّ ما حمل عبقريّ مسؤوليّة أمّة في حياتها!
إنه الإعجاز الذي جعل من أمّة الإِسلام أمّة محسودة؛ لأن العناية الإلهيّة وهبت لها عمر الفاروق، ثاني الراشدين، ليقودها وهي في مطلع حياتها، تتحسّس مواضع أقدامها، فكانت بعدله وسياسته وحكمته وقيادته خير أمة أخرجت للحياة في جميع مظاهر الإصلاح!
بهذا كله وأعظم منه قدراً، وأكثر عدداً، جاءت رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكانت خاتمة الرسالات!
وبهذا كله، وأرفع منه وزناً، وأجلّ منه مرتبةً، وأفضل معنى في مراتب الفكر والنظر، وفي مجالات أنظمة الحياة، أُنزل القرآن العظيم على خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، فكان المعجزة الخالدة، والآيات البيّنة، بمعانيه الإنسانيّة، وتشريعاته التعبديّة، وسماحته العقديّة، ونظمه الاجتماعيّة، وهدايته التربويّة، وآدابه الخلقيّة، وروعة أساليبه البيانيّة، وبراعة تحليله للنفوس البشريّة، وكشف دخائلها، وشفائها من أسقامها!
لقد جمع الله تعالى لعمر الفاروق رضي الله عنه كل هذه الحقائق والمعاني، وصوّر له كمالاتها في لحظة من الزمن، انفجر منها في داخل بصيرته نور أضاء له ملكوت السموات والأرض، فقرأ من كتاب الكون أصول هدايته كما أسلفنا فآمن بالله ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً!
يروي البخاري عن عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم قال: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر (1)!
قال ابن حجر: أي لما فيه من الجلد والقوّة في أمر الله!
وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود: كان إِسلام عمر عزاً، وهجرته نصراً، وإِمارته رحمةً، والله! ما استطعنا أن نصلّي حول البيت ظاهرين، حتى أسلم عُمر (2)!
إلْه عُمر الفاروق شهيد المحراب رضي الله عنه!
يروي البخاري عن أبي مُليْكة أنه سمع ابن عباس يقول: وُضع عمر على سريره، فَتَكنَّفَهُ الناس، يَدْعون ويُصلّون قبل أن يُرفع وأنا فيهم فلم يَرُعْنِي إِلا رجلٌ آخذٌ مَنْكبي، فإِذا هو عليٌّ بن أبي طالب، فترحّم على عمر وقال: ما خَلَّفْتَ أحداً أحب إِليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك! وايمُ الله! إِن كنتُ لأظُنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبْت أنّي كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ذهبْتُ أنا وأبو بكر وعُمر، ودخلْتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجْتُ أنا وأبو بكر وعمر"(3)!
(1) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3684)، وانظر (3863).
(2)
فتح الباري: 7: 48، وانظر: ابن هاشم: 1: 422، وابن سعد: 3: 270، والطبراني: الكبير: 9: 178، 179 ورجاله رجال الصحيح، إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود: انظر: المجمع: 9: 62، 63.
(3)
البخاري: 62 فضائل الصحابة (3685)، وانظر (3677).