الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصل في الباب حديث ابن عباس، حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضي الله عنهم في هذه المسألة وراسله: هل رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم ربّه! فأخبره أنه رآه!
وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها؛ فإنها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
قال النوويّ: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بعيني رأسه ليلة الإسراء، لحديث ابن عباس وغيره مما تقدّم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه!
القول الثاني:
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ير ربّه، فقد أنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها، وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدّثين والمتكلّمين!
يروي الشيخان وغيرهما عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه! هل رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم ربّه؟ فقالت: لقد قفّ (1) شعري مما قلت: أين أنت من ثلاث من حدّثكهن فقد كذب:
(1) أي قام من الفزع، لما حصل عندهما من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه، واستحالة وقوع ذلك، =
من حدّث أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربّه فقد كذب، ثم قرأت:
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام]!
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى]!
ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت:
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]!
ومن حدّثك أنه كتم فقد كذب، تم قرأت:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]!
ولكن رأى جيريل عليه السلام في صورته مرّتين! (1)
= قال النضر بن شميل: القفّ -بفتح القاف وتشديد الفاء، كالقشعريرة، وأصله (القبض) والاجتماع؛ لأنّ الجلد ينقبض عند الفزع، فيقوم الشعر لذلك: فتح الباري: 8: 607 وما بين القوسين هكذا في الفتح، وصوابه (التقبّض) و (يتقبّض) كما في مقاييس اللغة، والمعجم الوسيط، ولعل ما في الفتح يرجعه إلى الخطأ الطباعي!
(1)
البخاري: 65 - التفسير (4855)، ومسلم (177)، وانظر: إسحاق بن راهويه: (1421، 1422، 1439)، وأحمد: 6: 236، 241، والترمذي (3068)، وأبو يعلى (4900، 4901)، والطبري: التفسير: 27: 50، 51، وابن خزيمة: التوحيد: 222، 223، 224، 225، وأبو عوانة: 1: 153، 154، 155، والطحاوي: شرح المشكل (5599، 5600)، وابن حبّان (60)، وابن منده (763، 764، 765، 767، 768)، والبيهقيّ: الأسماء والصفات: 2: 180، 181.
وفي رواية عن الشيباني قال: سألت زِرًّا عن قوله تعالى:
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]!
قال: أخبرنا عبد الله أنه محمَّد صلى الله عليه وسلم من رأى جبريل له ستمائة جناح! (1)
قال ابن حجر: (2) والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه {فَأَوْحَى} أي جبريل:{إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله محمَّد؛ لأنه يرى أن الذي دنا فتدلّى هو جبريل، وأنه هو الذي أوحى إلى محمَّد!
وكلام أكثر المفسّرين من السلف يدلّ على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمَّد!
ومنهم من قال: إلى جبريل!
وفي رواية عن أبي هريرة في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم]
قال: رأى جبريل (3).
(1) البخاري: 65 - التفسير (4857)، ومسلم (174).
(2)
فتح الباري: 8: 610 - 611.
(3)
مسلم (175).
قال ابن القيم: (1) وأما قوله تعالى في سورة النجم:
فهو غير الدنوّ والتدلّي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو جبريل وتدلّيه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدلّ عليه، فإنه قال:
فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوي، وهو الذي دنا فتدلّى، فكان من محمَّد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى!
بين القولين:
قال النوويّ عقب ذكره أدلة القول الأوّل: (2) ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنّ عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربّي، وإنما ذكرت متأوّلة لقول الله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]!
ولقول الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]!
(1) زاد المعاد: 31: 38.
(2)
النوويّ على مسلم: 3: 5.
والصحابي إذا قال قولًا، وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة!
وذكر ابن حجر تعليقًا على قول النوويّ: وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة (1)، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علمًا، ولم تحلّ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربّه، وإنما تأوّلت الآية.
قال ابن حجر: وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي، عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}
فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله عن ذلك، فقال:"إنما هو جبريل".
وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقلت: يا رسول الله! هل رأيت ربّك؟ فقال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا"!
نعم، احتجاج عائشة بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:(2) رأى محمَّد ربّه.
(1) فتح الباري: 8: 607 - 608.
(2)
انظر: الترمذي (3279)، (3278 - 3280)،
قلت: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]!
قال: ويحك، ذاك إذا تجلّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربّه مرتين!
قال ابن حجر: وحاصله أن الراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه!
واستدل القرطبي في (المفهم) لأنّ الإدراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكايته عن أصحاب موسى:
وهو استدلال عجيب؛ لأنّ متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر، فلما نفى كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الإدراك الذي في قصّة موسى، ولولا وجود الإخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن الظاهر!
ثم قال القرطبي: الأبصار في الآية جمع محلّى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعًا في قوله تعالى:
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين].
فيكون المراد الكفّار، بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة]!
قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي!
قال ابن حجر: وهو استدلال جيّد!
وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة عقلًا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأمّا في الدنيا، فقال مالك: إنما لم يُر سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارًا باقيةً رأوا الباقي بالباقي!
قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع!
قال ابن حجر: لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه!
ثم قال: يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالله على الدّوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال:
وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"نور أنّى أراه"(1).
وفي رواية لأحمد عنه قال: "رأيت نورًا".
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]!
معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمَّد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح! (2)
قلت: سبق في رواية ثابت عن أنس بن مالك: "فأوحى الله إليّ ما أوحى .. " وهو صريح في هذا، اللهم إلا أن يقال: لأنّ الإيحاء الوارد في هذه الرواية كان في ليلة الإسراء، بدليل نصّ هذا الحديث، فهو في الإسراء والمعراج، والإيحاء الآخر الذي سبق ذكره في بدء الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أسري به!
وفي هذا يقول ابن القيمّ بعد أن ذكر أن الدنوّ والتدلّي في سورة النجم غيره في قصة الإسراء:
فأمّا الدنوّ والتدلّي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنوّ الربّ تبارك وتدلّيه، ولا تعرّض في سورة النجم بذلك، بل فيها أنه
(1) مسلم (178).
(2)
تفسير ابن كثير: 4: 249.
رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمَّد صلى الله عليه وسلم على صورته مرّتين: مرّة في الأرض، ومرّة عند سدرة المنتهى! (1)
ويقول القسطلاني: وهذا الدنوّ والتدلّي المذكور في هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنوّ والتدلّي المذكور في قوله تعالى في سورة النجم:
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 8، 9]!
وإن اتفقا في اللفظ، فإن الصحيح أن المراد في الآية جبريل؛ لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)}
هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -الذي سبق ذكره- ثم دلّل على ذلك! (2)
ويقول ابن كثير: فأمّا قول شريك عن أنس في حديث الإسراء: (ودنا الجبّار ربّ العزّة، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث .. وإن كان محفوظًا فليس بتفسير للآية الكريمة، بل هو شيء آخر، غير ما دلّت عليه الآية الكريمة! (3)
(1) زاد المعاد: 3: 38.
(2)
المواهب اللدنيِّة: 6: 98.
(3)
البداية: 3: 112.