الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصحاب النار فسَّاقًا، قال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}
(1)
.
الثاني: فسق لا يخرج من الملة، وهو الوقوع في المعاصي، والتجرؤ عليها، حيث سمى الله تعالى الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بالشهداء بأنهم فاسقون، وهم لم يخرجوا من الإسلام بذلك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}
(2)
.
قال القرطبي مبينًا الفسق بنوعيه: هو في الشرع خروج مذموم بحسب المخروج منه، فإن كان إيمانًا فذلك الفسق كفرًا، وإن كان غير إيمان فذلك الفسق معصية"
(3)
.
المطلب الخامس: الحلف بغير الله:
إن من الأعمال الشركية الحلف بغير الله تعالى لما فيه من تعظيم للمحلوف به. والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده فلا يحلف إلَّا بالله وذاته وصفاته
(4)
. قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"
(5)
.
وقد جعل القرطبي الحلف بغير الله كفرًا أو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك حسب قصد الحالف وذلك عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال -وفي رواية: متعمدًا-"
(6)
.
(1)
سورة السجدة، الآية:20.
(2)
سورة النور، الآية:4.
(3)
المفهم (1/ 107).
(4)
انظر: نيل الأوطار للشوكاني (9/ 114).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 125) والترمذي في أبواب النذور والأيمان، باب (8)، والحاكم في المستدرك (1/ 65)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 69) برقم (2042).
(6)
رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام ح (6652) =
حيث قال: "قوله: "كاذبًا متعمدًا" يحتمل أن يريد به النبي صلى الله عليه وسلم من كان معتقدًا لتعظيم تلك الملة المغايرة لملة الإسلام، وحينئذ يكون كافرًا حقيقة
…
وأما إن كان الحالف بذلك غير معتقد لذلك فهو آثم مرتكب كبيرة، إذ قد نسبه في قوله لمن يعظم تلك الملة ويعتقدها فغلظ عليه الوعيد بأن صيَّره كواحد منهم مبالغة في الردع والزجر"
(1)
.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء إذ المقصود تعظيمهم بذلك، وهو نهيٌّ عن الحلف بالآباء وغيرهم إذ الحلف لا يكون إلَّا بالله فهو المستحق للتعظيم، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"
(2)
قال القرطبي: "إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء لما فيه من تعظيمهم بصيغ الأيمان؛ لأن العادة جارية بأن الحالف منَّا إنما يحلف بأعظم ما يعتقده كما بيناه وإذا كان ذلك: فلا أعظم عند المؤمن من الله تعالى فينبغي ألا يحلف بغيره، فإذا حلف بغير الله فقد عطم ذلك الغير بمثل ما عظَّم به الله تعالى، وذلك ممنوع منه، وهذا الذي ذكرناه في الآباء جارٍ في كل محلوف به غير الله تعالى وإنما جرى ذكر الآباء هنا؛ لأنه هو السبب الذي أثار الحديث حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه، وقد شهد لهذا المعنى قوله: "من كان حالفًا فلا يحلف إلَّا بالله" وهذا حصر، وعلى ما قررناه فظاهر النهي التحريم، ثم هذا النهي وإن كان ظاهره التحريم فيتحقق فيما
= (11/ 546)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل النفس ح (110)(2/ 479).
(1)
المفهم (1/ 312).
(2)
رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم ح (6646)، (11/ 538) ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله ح (1646)(11/ 116) ولفظه "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" وفي رواية عند مسلم "فلا يحلف إلَّا بالله".
إذا حلف بملة غير الإسلام، أو بشيء من المعبودات دون الله تعالى، أو ما كانت الجاهلية تحلف به كالدمى والدماء والأنصاب، فهذا لا يشك في تحريمه، وأما الحلف بالآباء والأشراف ورؤوس السلاطين وحياتهم ونعمهم وما شاكل ذلك، فظاهر هذا الحديث يتناولهم بحكم عمومه ولا ينبغي أن يختلف في تحريمه وأما ما كان معظمًا في الشرع مثل: النبي صلى الله عليه وسلم والكعبة والعرش والكرسي وحرمة الصالحين، فأصحابنا يطلقون على الحلف بها الكراهية وظاهر الحديث وما قدمناه من النظر في المعنى يقتضي التحريم"
(1)
.
وما ذهب إليه القرطبي رحمه الله من تحريم ذلك كله والاقتصار على الحلف بالله تعالى هو الصحيح من كلام أهل العلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: والصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي، ولا مَلَكٍ من الملائكة، ولا مَلِكٍ من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ، والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم، كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد"
(2)
.
وأمَّا الحلف بالألفاظ المبهمة المراد بها اسم الله تعالى كقوله: "والذي نفسي بيده" وما شابهها من الألفاظ فهو جائز. قال القرطبي عنه: "هو قسم بالله تعالى، أي: والذي هو مالك نفسي، أو قادر عليها، ففيه دليل: على أن الحلف بالألفاظ المبهمة والمراد بها: اسم الله تعالى يمين جائزة حكمها حكم الأسماء الصريحة"
(3)
.
(1)
المفهم (4/ 621).
(2)
الفتاوى (27/ 349).
(3)
المفهم (4/ 160).
لكن من حلف بغير الله تعالى بالآباء، أو الأصنام، أو غيرها، فهل عليه كفارة في ذلك، قال بذلك بعض أهل العلم، وقد بين القرطبي رأيه في هذه المسألة، ورجَّح عدم الكفارة فقال: قد تقرر أن اليمين بذلك -أي الطواغيت والآباء- محرم ومع ذلك فلا كفارة فيه، عند الجمهور لأجل الحلف بها، ولا لأجل الحنث فيها، أما الأول فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:"من قال: واللات والعزى فليقل: لا إله إلَّا الله"
(1)
ولم يذكر كفارة ولو كانت لوجب تبيينها لتعين الحاجة لذلك وأما الثاني فليست بيمين منعقدة ولا مشروعة فيلزم بالحنث فيها الكفارة"
(2)
.
فالكفارة إذا هي قول لا إله إلَّا الله، وقد كان الحلف بها يجري على ألسنتهم من غير قصد، وذلك لما نشأوا عليه من تعظيم الأصنام والحلف بها.
قال القرطبي: "ولما نشأ القوم على تعظيم تلك الأصنام وعلى الحلف بها، وأنعم الله عليهم بالإسلام بقيت تلك الأسماء تجري على ألسنتهم من غير قصد للحلف بها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده: لا إله إلَّا الله تكفيرًا لتلك اللفظة وتذكيرًا من الغفلة وإتمامًا للنعمة"
(3)
.
وإذا تبين حرمة الحلف بغير الله تعالى مطلقًا فقد يستشكل ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق"
(4)
.
(1)
رواه البخاري في كتاب التفسير باب {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ح (4860)(8/ 478)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلَّا الله ح (1647)(11/ 117).
(2)
المفهم (4/ 624).
(3)
المفهم (4/ 626).
(4)
رواه مسلم في كتاب الإيمان، بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام ح (11) =
وما ورد في القرآن من القسم بغير الله تعالى.
وقد أورد القرطبي هذا الاستتشكال وأجاب عليه فقال: فإن قيل كيف يحكم بتحريم الحلف بالآباء والنبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بذلك لما قال: "أفلح وأبيه إن صدق" وكيف يحكم بتحريم الحلف بغير الله، وقد أقسم الله تعالى بغيره فقال:{وَالضُّحَى (1)} ، {وَالشَّمْسِ} ، {وَالْعَادِيَاتِ} ، {وَالنَّازِعَاتِ} ، وغير ذلك مما في كتاب الله تعالى من ذلك؟
(1)
.
وقد أجاب عن ذلك فقال: قوله: "وأبيه" الرواية الصحيحة التي لا يعرف غيرها، هكذا بصيغة القسم بالأب، وقال بعضهم: إنما هي "والله" وصحفت بأن قصرت اللامان فالتبست بأبيه، وهذا لا يلتفت إليه؛ لأنه تقدير يخرم الثقة برواية الثقات الأثبات، وإنما صار هذا القائل إلى هذا الاحتمال لما عارضه عنده من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء حيث قال:"لا تحلفوا بأبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(2)
.
وينفصل عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن هذا كان قبل النهي عن ذلك.
والثاني: أن يكون ذلك جرى على اللسان بحكم السبق من غير قصد للحلف به كما جرى منه: تربت يمينك، وعَقْرى حلقى
(3)
وهذه عادة عربية بشرية لا مؤاخذة عليها ولا ذم يتعلق بها
(4)
.
= (1/ 283).
(1)
المفهم (4/ 622).
(2)
سبق تخريجه ص (299).
(3)
عقرى: أي عقرها الله وأصابها بعقر في جسدها و"حلقى" أي: أصابها وجع في حلقها وهو دعاء يجري على لسان العرب ولا يعنونه.
(4)
المفهم (1/ 160).
وأما عن قسم الله تعالى بتلك الأمور من وجهين:
أحدهما: أن المقسم به محذوف تقديره: ورب الضحى ورب الشمس ونحو ذلك، قاله أكثر أئمة المعاني.
وثانيهما: أن الله تعالى يقسم بما يريد، كما يفعل ما يريد. إذ لا حكم عليه ولا حاكم فوقه، ونحن المحكوم عليهم، وقد أبلغنا حكمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" و"من كان حالفًا فلا يحلف إلَّا بالله" فيجب الانقياد والامتثال لحكم ذي العزة والجلال
(1)
.
والمازري قد قرَّر تحريم الحلف بغير الله تعالى، وأجاب عن الاستشكال الذي سبق ذكره وذلك عند تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، حيث قال:"هذا لئلا يشرك في التعظيم بالقسم غير الله سبحانه، وقد قال ابن عباس: لأن أحلف بالله فآثم أحب إليَّ من أن أضاهي، فقيل معناه: الحلف بغير الله، وقيل معناه: الخديعة، يرى أنه حلف وما حلف، وقد قال ابن عباس أيضًا: أن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر. ولهذا ينهى عن اليمين بسائر المخلوقات، ولا يعترض على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق" لأنه لا يراد بها القسم، وإنما هذا قولٌ جارٍ على ألسنتهم
…
وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} (قيل معناه: ورب التين والزيتون) أو يكون المراد به التنبيه على ما فيها من العجائب والمنة بهما عليهم، ولا يراد بهما القسم، ولو سلَّمنا أن المراد بهما القسم من غير حذف وإضمار لم يبعد أن يكون الباري سبحانه يقسم بهما ويمنعنا من القسم بهما، وتعظيم الباري جلت قدرته للأشياء بخلاف تعظيمنا لها؛ لأن كل حق بالإضافة إلى حقه
(1)
المفهم (4/ 622).