الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
علم الكلام وموقف السلف منه
مما لا شك فيه أن علم الكلام الذي خاض فيه من خاض، فقعَّدوا له القواعد، وبنوا عليه المسائل، وألزموا الناس من خلاله بمنهج لم يأت في كتابٍ ولا سنة، ولا عرفه سلف هذه الأمة، وقد ترتب عليه من المحاذير ما الله به عليم، خصوصًا ما يتعلق بتوحيد الربوبية، ومعرفة الله تعالى، لذا وضعت هذا التمهيد لهذا الفصل في ذم الكلام وأهله وموقف السلف منه.
لقد أمر الله تعالى بلزوم الكتاب والسنة، ونهى عن الخصومات في الدين، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة"
(2)
.
وقد حرص الصحابة رضي الله عنهم على الالتزام بالكتاب والسنة، والتحذير من البدع والكلام المذموم، والمجادلة بالباطل. وما قصة عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل
(3)
وتأديبه، والنهي عن
(1)
سورة النساء، الآية:115.
(2)
رواه أحمد في مسنده (4/ 126)، وأبو داود في كتاب السنة، باب لزوم السنة، والترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 342).
(3)
صبيغ بن عسل ويقال صبيغ بن شريك التميمي البصري: استمر في منهجه هذا حتى قتل في =
مجالسته - بسبب كثرة أسئلته ومجادلاته بالباطل
(1)
- إلَّا نموذجًا على حرص الصحابة رضي الله عنهم على إقفال هذا الباب، والتحذير من هذا المسلك.
قال ابن مسعود رضي الله عنه "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"
(2)
.
وقد سار التابعون، ومن بعدهم من السلف، على هذا المنهج، وازَداد تحذيرهم من هذا المسلك بعدما أحدث المتكلمون المسائل الكلامية البدعية، وما صاحبها من الألفاظ المحدثة الموهمة.
قيل لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام والأعراض والأجسام؟ فقال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"
(3)
.
وقال الإمام مالك: "لو كان الكلام علمًا، لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطلٌ، يدل على باطلٍ"
(4)
.
وقال الإمام الشافعي: "لأن يُبْتَلى المرءُ بكل ما نهى اللهُ عَنه -ما عدا الشرك به- خيرٌ من النظر في الكلام"
(5)
.
= بعض الفتن. تاريخ دمشق (23/ 408).
(1)
وردت القصة بعدة روايات انظر: الشريعة للآجري (1/ 483)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/ 702).
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 166).
(3)
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة للأصبهاني (1/ 115).
(4)
شرح السنة للبغوي (1/ 149).
(5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 165) الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (1/ 115).
وقال الإمام أحمد: "لا يفلح صاحب كلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل"
(1)
.
وقال أبو يوسف
(2)
: "من طلب الدين بالكلام تزندق"
(3)
.
وقال البربهاري
(4)
: "اعلم أنها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام، والجدال والمراء، والخصومة والعجب"
(5)
.
وهكذا تضافرت نصوص السلف في التحذير من علم الكلام وذمه. وهذا التحذير ينصب على علم الكلام المخالف للكتاب والسنة، مما أُدْخِلَ في العقيدة من الدلائل والمسائل المبتدعة، التي تكون سببًا في ضعف الإيمان، وقلة تعظيم الكتاب والسنة.
والقرطبي رحمه الله له كلامٌ قويٌ جميلٌ في الرد على المتكلمين، وذم ما هم فيه، وبيان المحاذير المترتبة على الكلام، نقله الإمام الحافظ ابن حجر بطوله في الفتح -كما تقدم ذكره- خصوصًا أن القرطبي أخذ علم الكلام في بداية طلبه، كما قال ابن مسدي عنه: "أخذ
(1)
صحيح جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر تحقيق أبو الأشبال الزهيري ص (367).
(2)
هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري مولاهم الشهير بأبي يوسف صاحب أبي حنيفة أثبت أصحاب الرأي في الحديث وأحفظهم له، توفي سنة (182 هـ). سير أعلام النبلاء (8/ 535)، طَبقات الحفاظ ص (136) ترجمة (260).
(3)
الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (1/ 117)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 166).
(4)
هو الحسن بن علي بن خلف البربهاري شيخ الحنابلة كان قوَّالًا للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم أوذي وامتحن بسب ذلك حتى توفي مستترًا سنة (328 هـ). سير أعلام النبلاء (15/ 90). البداية والنهاية (11/ 213).
(5)
شرح السنة للبربهاري ص (38).
نفسه بعلم الكلام وأن الجوهر الفرد لا يقبل الانقسام وتغلغل في تلك الشعاب عدة أحقاب"
(1)
. وقال المقري: "وكان يشتغل أولًا بالمعقول"
(2)
.
فنقده لعلم الكلام نقد المجرب الخبير، حيث قال عند شرحه لحديث:"إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ"
(3)
: "وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك؛ الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالًا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعًا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال لما بحثوا عن تحيز الجواهر والأكوان والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات أو غيرها، وأن الكلام هل هو متحد أو منقسم؟ وإذا كان منقسمًا فهل ينقسم بالأنواع أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم
(1)
توضيح المشتبه (8/ 139).
(2)
نفح الطيب لابن ناصر الدمشقي (2/ 615).
(3)
رواه البخاري في كتاب المظالم باب قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] ح (2457)(5/ 127)، ومسلم في كتاب العلم باب في الألد الخصم ح (2668)(16/ 459).
إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلًا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها، لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته، فإن العقول لها حدٌّ تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات وكيفية الصفات، ولذا قال العليم الخبير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
(1)
، ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حُجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها وعن كيفية إدراكاتك مع أنك تدرك بها، وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء وإدراك عقول الفضلاء، أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات، منزه عن صفاتها، مقدَّس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به. ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه وأسمائه، قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه، هذه طريقة السلف، وما سواها مهاوٍ وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين
…
".
ثم ذكر أقوالًا في ذم الكلام لعمر بن عبد العزيز
(2)
، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن عقيل
(3)
سبق بعضها، ثم بيَّن رجوع كثير من
(1)
سورة الشورى، الآية:11.
(2)
هو الإمام الراشد القدوة العادل المصلح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مروان الأموي تولى الخلافة سنتين وأشهر رد فيها المظالم إلى أهلها وسعى في الإصلاح وفعل الخير من الحفاظ المجتهدين والعباد الزاهدين. تاريخ الخلفاء ص (261) وطبقات الحفاظ ص (57) ترجمة (101).
(3)
أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي المتكلم صاحب التصانيف من =
أئمة المتكلمين عن الكلام، كإمام الحرمين، والوليد بن أبان الكرابيسي
(1)
، وأبي الوفا بن عقيل، والشهرستاني
(2)
وذكر أقوالهم في ذلك، ثم قال: "
…
ولو لم يكن في الكلام شيءٌ يُذمُّ به إلَّا مسألتان هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذم، وجديرًا بالترك:
إحداهما: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات: الشك في الله تعالى. والثانية: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من السلف الماضين، وأئمة المسلمين
…
عصمنا الله من بدع المبتدعين، وسلك بنا طريق السلف الماضين، وإنما طوَّلت في هذه المسألة الأنفاس، لما قد شاع من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغتر كثيرٌ من الجُهَّال بزخرف تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب عليَّ من النصيحة، والله تعالى يتولى إصلاح القلوب الجريحة"
(3)
.
وسبب ذم السلف لعلم الكلام، وتشديدهم في النكير على أهله، إنما كان لعلمهم أن الكتاب والسنة يفيان بما يحتاجه الناس، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
= الأذكياء المتبحرين توفي سنة (513 هـ). سير أعلام النبلاء (19/ 443)، الكامل في التاريخ (9/ 190).
(1)
الوليد بن أبان الكرابيسي المعتزلي المتكلم قيل: إنه رجع عند وفاته عن الكلام وأوصى بما عليه أهل الحديث توفي سنة (214 هـ). سير أعلام النبلاء (10/ 548)، معجم المؤلفين (4/ 76).
(2)
هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني الشافعي المتكلم الأشعري، من تصانيفه:"الملل والنحل"، "نهاية الإقدام" وغيرها توفي سنة (548 هـ). سير أعلام النبلاء (20/ 286)، معجم المؤلفين (3/ 422).
(3)
المفهم (6/ 690 - 694).
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}
(1)
.
وقد وسع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ذلك، فلم يخوضوا في علم الكلام، والحق في الاتباع وترك الابتداع. إضافة إلى أن علم الكلام يؤدي بأهله إلى الشك والحيرة؛ لاشتماله على مسائل مبتدعة، ومعاني باطلة، بنيت على أصول فاسدة، حيث عظموا العقل، وجعلوه حاكمًا على الكتاب والسنة، فضعف خضوعهم للكتاب والسنة، وقلَّت عنايتهم بهما، فعرضوا مسائل العقيدة وفق منهج كلامي، وقالب فلسفي جدلي، مما يؤدي إلى صرف الناس عن إدراك حقيقة العقيدة الصافية السهلة الواضحة. ثم إنهم أفنوا أعمارهم في توحيد الربوبية، وإثبات أدلة وجود الله تعالى، وهو أمِرٌ فطري، لا يحتاج إلى كل ذلك، وأغفلوا توحيد الألوهية، الذي خلِق الناس لأجله، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}
(2)
. فلم يكن ما خاضوا فيه علمًا نافعًا، ولا منهجًا صائبًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم:"من أعظم الناس حشوًا وقولا للباطل وتكذيبًا للحق"
(3)
.
على أن من خاض من السلف في بعض المسائل التي لم تكن معروفة عند المتقدمين منهم، إنما فعل ذلك مضطرًا مجبرًا للدفاع عن الإسلام، ودفع شبه الملحدين والزنادقة، الذين يدّعون علم المعقول، ويطعنون في الكتاب والسنة، كما قال الإمام الدارمي
(4)
رحمه الله:
(1)
سورة العنكبوت، الآية:51.
(2)
سورة الذاريات، الآية:56.
(3)
الفتاوى (4/ 27).
(4)
هو عثمان بن سعيد الدارمي الإمام الحافظ المحدث صاحب المسند طاف الأقاليم في طلب الحديث كان قويًّا على المبتدعة وله مصنفات في الرد عليهم توفي سنة (280 هـ). سير أعلام النبلاء (13/ 319)، تاريخ دمشق (38/ 361).
"وقد كان من مضى من السلف يكرهون الخوض في هذا وما أشبهه، وقد كانوا رُزِقُوا العافية منهم، وابتُلِيْنَا بهم عند دروس الإسلام، وذهاب العلماء، فلم نجد بُدًّا من أن نرد عليهم ما أتوا به من الباطلِ بالحق"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقه"
(2)
.
وكذلك ينبغي أن يُعلم أن الذين خاضوا في علم الكلام، وأخذوا بأقوال المتكلمين ليسوا على درجة واحدة، ولا يلحق الذم المذكور عن السلف جميع هؤلاء، بل هم درجات وبعضهم أقرب إلى السنة من بعض، إذ منهم من تابع أهل الكلام، وانخدع بأقوالهم، لعدم معرفته بالحق في بعض المسائل، مع تعظيمه لنصوص الشرع، ونصرته للحق، فهذا لا يقارن بمن حرَّف الكلِمَ عن مواضعه، وأصَّل أصولًا من عقله، وجعلها حاكمًا على شرع الله"
(3)
.
(1)
الرد على الجهمية للدارمي ص (23).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 357).
(3)
انظر: النبوات ص (159)، الاستقامة (1/ 37)، درء التعارض (2/ 315، 7/ 98) وكلها لابن تيمية.