الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمرو بن العلاء ونحوهم. أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيد معمر بن المثنى
(1)
، ولكن لم يعن في مجازه ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية .. فهذا اصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين، فإنه لا يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف إلَّا في كلام أحمد بن حنبل، ولم يرد بذلك أن للفظ استعمالًا في غير ما وضع له، وعلى فرض صحة التقسيم إلى حقيقة ومجاز فهو لا ينفعكم بل هو عليكم لا لكم؛ لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة، وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال"
(2)
.
المطلب الثالث: الاستثناء في الإيمان:
اختلف الناس في الاستثناء في الإيمان، أي قول العبد أنا مؤمن إن شاء الله، أو غير ذلك من العبارات الدالة على الاستثناء على ثلاثة أقوال:
الأول: من منع الاستثناء وحرَّمه وقال أنه يقتضي الشك، ومن تردد في تحقيق الإيمان لم يكن مؤمنًا. بل ذهب بعضهم إلى تكفير من قال بالاستثناء
(3)
. وقال بهذا الماتريدية ومن وافقهم. وهذا عائد على تعريف الإيمان عندهم بأنه التصديق والإقرار.
وقد ردَّ عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وبيَّن فساد قولهم هذا في كلام
= عمره، ثم توجه إلى العربية فصار أعلم الناس بها، توفي سنة (180 هـ). البداية والنهاية (10/ 74). سير أعلام النبلاء (8/ 351).
(1)
معمر بن المثنى التيمي البصري الإمام النحوي، صاحب التصانيف توفي سنة (209 هـ). تهذيب التهذيب (4/ 126)، تاريخ دمشق (59/ 423).
(2)
الفتاوى (7/ 88، 89، 116) بتصرف.
(3)
زيادة الإيمان ونقصانه للدكتور عبد الرزاق العباد ص (519).
يطول ذكره
(1)
.
الثاني: من قال بضد القول السابق، إذ أوجب الاستثناء في الإيمان، وهم الأشاعرة والكلابية. إذ الإيمان عندهم هو ما يموت عليه الإنسان، فالإيمان والكفر عندهم باعتبار الموافاة، وحملوا النصوص التي جاءت عن السلف في الاستثناء على ذلك.
الثالث: من قال بجواز الاستثناء وعدمه، فلم يحرمه مطلقًا، ولم يوجبه مطلقًا. فأجازوه باعتبار، ومنعوه باعتبار آخر. أجازوه خوف تزكية النفس، ولدخول الأعمال في الإيمان والتقصير فيها ظاهر
(2)
. ومنعوه إذا أراد المستثني الشك في أصل إيمانه وهذا هو مذهب السلف. وقد ورد عن السلف نصوص تدل على الاستثناء وعدمه، فمن استثنى قصد به الإيمان التام الكامل المقبول عند الله تعالى، ومن لم يستثق قصد الإيمان الباطن الذي هو أصل الإيمان وأساسه، وهذا لا استثناء فيه.
فقد سأل رجلٌ الحسن البصري
(3)
عن الإيمان، فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
(4)
فوالله ما أدري أنا منهم أم لا
(5)
.
(1)
الفتاوى (13/ 41).
(2)
انظر السنة للخلال (3/ 600)، والفتاوى لابن تيمية (7/ 496).
(3)
هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري إمام التابعين الفقيه الزاهد والعلم الشهير، كان ينطق بالحكمة توفي سنة (110 هـ). تهذيب التهذيب (1/ 388)، صفة الصفوة (3/ 233).
(4)
سورة الأنفال، الآيات: 2 - 4.
(5)
شعب الإيمان للبيهقي (1/ 86).
وقال شيخ الإسلام: ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك -أي أصل الإيمان- لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه
(1)
.
وقال أيضًا: والقول الثالث أوسطها وأعدلها أنه يجوز الاستثناء باعتبار وتركه باعتبار، فإن كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله عليَّ وأنه يقبل أعمالي ليس مقصوده الشك فيما في قلبه فهذا استثناؤه حسن وقصده ألَّا يزكي نفسه
(2)
.
والمذهب الحق في ذلك هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن الاستثناء الذي ورد عن السلف باعتبار عدم قيام الإنسان بسائر الأعمال التي أمر الله تعالى بها وتقصيره في ذلك، لا باعتبار عدم علمه بالمستقبل وما يموت عليه.
وقد ذهب عامة الأشاعرة إلى وجوب الاستثناء باعتبار أن الإيمان عندهم هو ما مات عليه الإنسان، فيكون مؤمنًا أو كافرًا، باعتبار الموافاة فهو يستثني لأنه لا يعلم ما يموت عليه. قال الجويني:"فإن قيل: قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به، وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"
(3)
.
(1)
الفتاوى (7/ 449).
(2)
المرجع السابق (13/ 41).
(3)
الإرشاد للجويني ص (336).
وعليه فقد قرر القرطبي أن المسألة خلافية، ثم بيَّن أن القول الصحيح جواز الاستثناء وعدمه -وهو الحق- ولكنه لم يعلل الاستثناء بتعليل السلف، وهو عدم قيامه بكامل الأعمال التي أمر بها والخوف من التقصير فيها، إنما علل بتعليل الأشاعرة أي بالموافاة حيث قال:"وفيه حجة لمن يقول: "أنا مؤمن" بغير استثناء، وهي مسألة اختلف فيها السلف، فمنهم المجيز والمانع، وسبب الخلاف النظر إلى الحال، أو إلى المآل، فمن منع خاف من حصول شك في الحال، أو تزكية، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال، وهو غيب في الحال إذ لا يدري بما يختم له، والصواب الجواز إذا أمن الشك والتزكية، فإنه تفويض إلى الله تعالى"
(1)
.
وقد رد شيخ الإسلام هذا التعليل، وبيَّن أنه ليس من مذهب السلف، حيث قال:"وأمَّا الموافاة فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيرًا من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري، وأكثر أصحابه، ولكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث"
(2)
.
وقال أيضًا: لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلَّا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم"
(3)
.
(1)
المفهم (1/ 366).
(2)
الفتاوى (7/ 439).
(3)
الفتاوى (7/ 436).