الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الحالة العلمية:
لقد عاش المازري في النصف الأخير من القرن الخامس، والثلث الأول من السادس.
وقد رأينا في الحالة السياسية الأحداث المعاصرة لحياته من حروب واضطرابات تعرضت لها بلاده من الأعراب والنصارى، مما يترتب عليه تأثير على الحياة العلمية في تلك البلاد. إضافة إلى أن حياته كانت تحت ظل دولة ترضخ للحكم الفاطمي الشيعي وما يضمره من عداء للسنة والقائمين بها والمنافحين عنها، ولذا أثرت هذه الظروف على الحياة العلمية.
فالغموض الذي صاحب حياة المازري خصوصًا في نشأته الأولى، فلم يُعرف من شيوخه سوى أربعة - بعد البحث والتحري - رغم كثرتهم، وهو العلم البارز - أثر من آثار هذا التأثير.
فغالب تأثير الحياة السياسية في عصره على الحياة العلمية ينصب في ضياع ذلك التراث العلمي الضخم للعلماء في ذلك العصر، وقلة المعلومات عنهم، والمازري - وهو العلم البارز - مثل لذلك بغموض حياته وضياع معظم مؤلفاته.
ولكن رغم هذه الظروف الصعبة، والحملة الشيعية الظالمة إلَّا أن العلماء لم يتخلَّو عن واجبهم ولم يغفلوا عمَّا أُنيط بهم من نصرة الدين، ونصيحة الأمة، والقيام بواجب العلم، بل كلما ازدادت المحنة عظمت المهمة، فلم تقتصر على التدريس فقط في حلق العلم ومجالس الذكر، وهو ما حدث من علماء إفريقية في هذا العصر، بل قاوموا الدعوة الفاطمية الشيعية، رغم دخولهم راغمين تحت سلطانها.
قال الشيخ محمد الشاذلي النيفر: ويرجع تستر الفاطميين إلى شدة شكيمة الأفارقة، فإنهم لم يقبلوا بالسنة بدلًا، كلفهم ذلك ما كلفهم، ومع أنهم لاقوا شدة وبلاءً كبيرًا من الفاطميين لم تلن لهم قناة ولا رجعوا عن السنة"
(1)
.
فهم يقومون بواجبهم من نشرٍ للعلم الصحيح، وإحياءٍ للسنة، والأخذ بعامة الأمة إلى ما فيه صلاحهم وإصلاحهم، ولو قدموا حياتهم ثمنًا لذلك.
قال الشيخ النيفر: فمن المقاومة في ابتدائها حين تأسيس الدعوة ما قام به ابن خيرون
(2)
فإنه عُذب من أجل أنه سُعى به لدى عبيد الله المهدي
(3)
فقُتل رفسًا بأرجل السودان.
ولم يترك فقهاء القيروان أرضهم بل صمدوا عاملين للسنة بكل ما أوتوا من قوة، وقد صرح بصبر أهل القيروان وثباتهم ووقوفهم في وجه الدعوة ابن ناجي
(4)
في كتابه "معالم الإيمان"
(5)
: وجزى الله مشيخة
(1)
مقدمة المعلم (1/ 9).
(2)
محمد بن محمد بن خيرون، مقرئ مؤرخ، نسَّابة، ولد في الأندلس، ثم رحل إلى إفريقية، من آثاره: كتاب "الأداء"، "الألفات واللامات في رسم المصحف"، توفي سنة (301 هـ). معجم المؤلفين (3/ 641)، سير أعلام النبلاء (14/ 217).
(3)
عبيد الله بن محمد الفاطمي العلوي، المعروف بالمهدي، مؤسس دولة الفاطميين الشيعية بالمغرب، اختط "المهدية" وجعلها عاصمة لملكه، توفي سنة (322 هـ). البداية والنهاية لابن كثير (11/ 191)، الأعلام لخير الدين الزركلي (4/ 196).
(4)
أبو الفضل قاسم بن عيسى بن ناجي، فقيه، حافظ من القيروان، تولى القضاء في عدة بلدان، له عدة مؤلفات، منها:"شرح المدونة" و"الشافي في الفقه" توفي سنة (837 هـ). الأعلام (5/ 179)، معجم المؤلفين (2/ 646).
(5)
كتاب معالم الإيمان لعبد الرحمن بن محمد الدباغ، المحدث، المؤرخ، المتوفى سنة (689 هـ)، وكتاب ابن ناجي المذكور هنا هو:"زيادات على معالم الإيمان". معجم =
القيروان: هذا يموت، وهذا يضرب، وهذا يسجن، وهم صابرون، لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة
(1)
.
فالأحوال السياسية في إفريقية فرضت على العلماء في ذلك الوقت طريقة خاصة في نشر العلم وتبليغه، وهو مقاومة الواقع المفروض من تأثير المذهب الشيعي الذي تدعمه الحكومة، وكذلك مواجهة الأطماع النصرانية التي سيطرت على البلاد القريبة من إفريقية، بل سيطرت أحيانًا على المهدية نفسها.
ولكن لم تكن هذه الظروف لتقضي على العلم، أو تطمس رسمه، قال فرحات الدشراوي: لقد كان المازري في تلك الفترة التي طالت فيها محنة الدولة الصنهاجية مثلًا ساطعًا عن اتصال السند العلمي بإفريقية منذ القرن الأول، بالرغم مما كان ينتاب البلاد من نوائب الفتنة، وشرور الاضطراب السياسي، فلقد استقر فيها الإسلام وترعرعت بربوعها علومه، ونمت به الآداب والمعارف، جيلًا بعد جيل، منذ دخولها في الملة الإسلامية والثقافة العربية، ولم تكن تلك التقلبات السياسية التي ألفتها البلاد قاطعة لأسباب النمو الفكري، والنهضة العلمية، بل إن إفريقية ظلت دارًا خصبة للعلوم الإسلامية، والآداب والمعارف
…
فقد عاش المازري وهو صقلي الأصل في عهد كاد يتقلص فيه سلطان الإسلام من بلادنا بخطر النصارى الزاحفين من جهة جنوب إيطاليا وصقلية
…
فكأن المازري ظل طيلة حياته - وقد أبى الالتجاء إلى المشرق، وآثر البقاء في بلده والصمود أمام المحنة - برهانًا عن صبر إفريقية على المآسي، وعما يكون بالعلوم والمعارف من العزاء من شرور السياسة واضطراب
= المؤلفين (2/ 117).
(1)
مقدمة المعلم (1/ 11).
الدول
(1)
.
والمهدية وهي بلد المازري، كانت بلد علم وعلماء ساعدها على ذلك موقعها على طريق المارين من المغرب إلى المشرق، والعكس، لذا أصبحت فيها حركة علمية متميزة.
قال محمد الهادي العامري: "انتصب أبو عبد الله محمد المازري للتدريس بالمهدية، فأقبل على مدرسته ما لا يحصى ولا يعد، من الرحالة المستهامين بطلب العرفان، أكان ذلك من الأندلس أو المغرب، أو المشرق الإسلامي، فكان ذلك الملتقى العجيب يجمع بين رجال الفكر والعلم من كل صوب وحدب
…
وكانت المهدية في تلكم العهود تضج برجال العلم وتزخر بكبار الأدباء وتزدحم بالوافدين عليها"
(2)
.
وبرز في عصر المازري علماء أعلام سواء بالمغرب أو المشرق، حفلت كتب التراجم بسيرهم، من أشهرهم:
- ابن حزم
(3)
: المتوفى سنة (456 هـ).
- والبيهقي
(4)
المتوفي سنة (458 هـ).
(1)
الصراع العقائدي في الفلسفة الإسلامية، محنة الحضارة الإسلامية في الدولة الصنهاجية، فرحات الدشراوي، دراسات ملتقى الإمام المازري في الفلسفة الإسلامية، المنستير، تونس، 1975 م، ص (27).
(2)
المرجع السابق، بحث الإمام المازري، حياته وعلمه، محمد الهادي العامري، ص (112).
(3)
الإمام الشهير أحمد بن محمد بن حزم، الأندلسي بلدًا، الظاهري مذهبًا. له: الفصل في الملل والنحل، المحلى بالآثار، وغيرهما، توفي سنة (456 هـ). سير أعلام النبلاء (18/ 184)، طبقات الحفاظ للسيوطي ص (455) ترجمة (983).
(4)
أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الحافظ الفقيه الشافعي، صاحب المصنفات الكثيرة، منها:"السنن الكبرى"، و"شعب الإيمان"، و"دلائل النبوة" وغيرها، توفي سنة (458 هـ). سير أعلام النبلاء (18/ 163)، طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح =
- وابن عبدالبر
(1)
: المتوفى سنة (463 هـ).
- والواحدي المفسر
(2)
: المتوفي سنة (468 هـ).
- والجويني
(3)
: المتوفى سنة (478 هـ).
- والبغوي
(4)
: المتوفي سنة (516 هـ)
…
وغيرهم.
= (1/ 332).
(1)
أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبدالبر الأندلسي القرطبي المالكي، المحدث الحافظ المؤرخ، تولى قضاء بعض بلدان الأندلس، وصنف مصنفات كثيرة، منها:"الاستيعاب في معرفة الأصحاب"، وله "الاستذكار"، و"التمهيد"حول موطأ الإمام مالك رحمه الله، و"بيان العلم وفضله" توفي في شاطبة سنة (463 هـ). سير أعلام النبلاء (18/ 153)، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي ص (626).
(2)
علي بن أحمد بن محمد الواحدي، النيسابوري، المفسر، توفي في نيسابور سنة (468 هـ). طبقات المفسرين لمحمد الداوودي (1/ 394)، سير أعلام النبلاء (18/ 239).
(3)
أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، الشافعي، الأشعري، المشهور بإمام الحرمين الأصولي، المتكلم، له:"البرهان" في أصول الفقه"، و "الإرشاد" في أصول الدين، توفي سنة (478 هـ). طبقات الشافعية لأحمد بن قاضي شهبة (1/ 255)، البداية والنهاية (12/ 136).
(4)
الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء، البغوي، الشافعي، المحدث، المفسر، له عدة مصنفات، منها:"معالم التنزيل" و"شرح السنة"، توفي في خراسان سنة (166 هـ). سير أعلام النبلاء (19/ 439)، طبقات الحفاظ ص (478) ترجمة (1029).