الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: بعض أنواع العبادة:
1 -
الدعاء:
إن الدعاء من أعظم أنواع العبادة، وأوضح مظاهر الخضوع والتذلل لرب العالمين، لما فيه من. الالتجاء والافتقار إلى أرحم الراحمين. وقد كان صلى الله عليه وسلم وهو من حقق العبودية على أكمل صورها مظهرًا الحاجة والافتقار إلى الله تعالى، ملتجئًا إليه، كثير الإلحاح في الدعاء.
وقد بيَّن القرطبي أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وغيرها إنما هو من القيام بحق العبودية، وإظهار الفاقة والحاجة إليه تعالى، حيث قال:"قوله: "فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه"
(1)
هذا منه صلى الله عليه وسلم قيام بوظيفة ذلك الوقت من الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، وتعليم لأمته ما يلجؤون إليه عند الشدائد والكرب الواقعة بهم، فإن ذلك الوقت كان وقت اضطرار وشدة، وقد وعد الله المضطر بالإجابة حيث قال:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}
(2)
يعني عن المضطر عند الدعاء. فقام بعبادة ذلك الوقت، ولا يلزم من اجتهاده في الدعاء ذلك الوقت أن يكون ارتاب في أن الله سينجز له ما وعده به
…
لكنه قام بحق العبودية وإظهار الفاقة، وامتثال العبادة، فإن الدعاء مخ العبادة، فقلبه صلى الله عليه وسلم مستغرق بمعرفة الواعد وإنجاز الموعود ولسانه وجوارحه مستغرقة بالقيام بحق عبادة المعبود، فقام بكل جارحة بوظيفتها، ولكل عبادة بحقيقتها"
(3)
.
(1)
رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر ح (1763)(12/ 327).
(2)
سورة النمل، الآية:62.
(3)
المفهم (3/ 574).
وقال في موضع آخر- عن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض الدعوات- حاثًّا على الاقتداء به عليه السلام: "إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات، وتعوَّذ بهذه التعوذات، إظهارًا للعبودية، وبيانًا للمشروعية ليُقتدي بدعواته ويتعوذ بتعويذاته"
(1)
.
والدعاء كما أنه عباد وقربة إلى الله تعالى، وامتثالٌ لأمره تعالى، إذ قال:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(2)
. فالمسلم بدعائه يرجو الإجابة، ولذا فلابد من القيام بهذه العبادة على وجهها الصحيح من الإتيان بشروط الدعاء، والحذر من موانع الإجابة، وقد ذكر العلماء ذلك في كتبهم، وتوسَّعوا ليحقِّقَ العبد العبادة. وقد ذكر القرطبي بعض هذه الشروط والتي منها: العزم في الدعاء وإظهار الحاجة والافتقار حيث قال عن هذا الشرط عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقُولَنَّ أحدُكُم اللهُمَّ اغفر لي إن شئت! اللهم ارحمني إن شئت! ليعزم في الدعاء فالله صانع ما شاء لا مكره له"
(3)
: "إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول لأنه يدل على فتور الرغبة، وقلة التهمم بالمطلوب، وكأن هذا القول يتضمن: أن هذا المطلوب إن حصل وإلَّا استغني عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلًا على قلة اكتراثه بذنوبه وبرحمة ربه، وأيضًا فإنه لا يكون موقنًا بالإجابة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ
(1)
المفهم (7/ 35).
(2)
سورة غافر، الآية:60.
(3)
رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له ح (6339)(11/ 144)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدعاء ح (2679)(17/ 9).
لاهٍ"
(1)
ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالنهي عن ذلك حتى أمر بنقيضه، فقال:"ليعزم في الدعاء" أي ليجزم في طلبته وليحقق رغبته ويتيقن الإجابة"
(2)
.
وذكر في موضع آخر جملة من شروط الدعاء وآدابه التي بالقيام بها وتحقيقها ترجى الإجابة فقال: "إن إجابة الدعاء لابد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به، فمن شرط الداعي أن يكون عالمًا بأنه لا قادر على حاجته إلَّا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة، وحضور قلب، وأن يكون مجتنبًا لأكل الحرام، وألَّا يمل من الدعاء فيتركه، ويقول: قد دعوت فلم يستجب لي، كما قال في الحديث، ومن شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا
…
واستدامة الإلحاح في الدعاء، فإن الله يحب الملحين عليه في الدعاء، وكيف لا؟ والدعاء مخ العبادة، وخلاصة العبودية، والقائل قد دعوت فلم أر يستجاب لي، ويترك. قانطًا من رحمة الله وفي صورة الممتن بدعائه على ربه، ثم إنه جاهل بالإجابة، فإنه يظنها إسعافه في عين ما طلب فقد يعلم الله تعالى: أن عين ما طلب مفسدة فيصرفه عنها، فتكون إجابته في الصرف، وقد يعلم الله أن تأخيره إلى وقت آخر أصلح للداعي، وقد يؤخره؛ لأنه سبحانه يحب استماع دعائه ودوام تضرعه، فتكثر أجوره، حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضى له. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من داع يدعو إلَّا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر
(1)
رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب (66) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 141) برقم (594).
(2)
المفهم (7/ 29).
عنه"
(1)
. ثم بعد هذا كله فإجابة الدعاء -وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة- فهي مقيدة بمشيئته، كما قال تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}
(2)
"
(3)
.
2 -
الخوف والرجاء:
وهما من أنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
(4)
، وقال تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}
(5)
.
فالخوف من الله تعالى دليلٌ على كمال المعرفة به سبحانه، إذ كلما كان المسلم بالله أعرف كان له أخوف، والخوف هو أساس التقوى.
قال القرطبي في هذا: "المتقي شرعًا هو الذي يخاف الله تعالى ويجعل بينه وبين عذابه وقاية من طاعته، وحاجزًا عن مخالفته، فإن أصل التقوى الخوف، والخوف إنما ينشأ عن المعرفة بجلال الله وعظمته وعظيم سلطانه وعقابه"
(6)
.
والرجاء لابد أن يكون مع إحسان العمل، أما الرجاء مع ترك العمل فهو عجز، قال القرطبي موضحًا هذا المعنى: "استصحبوا الأعمال الصالحة والآداب الحسنة التي يرتجي العامل لها قبولها، ويحقق ظنه برحمة ربه عند فعلها، فإن الله قريب من المحسنين، وعقابه مخوف على
(1)
سبق تخريجه ص (239).
(2)
سورة الأنعام، الآية:41.
(3)
المفهم (7/ 62، 63).
(4)
سورة النازعات، الآيتان: 40، 41.
(5)
سورة الرحمن، الآية:46.
(6)
المفهم (6/ 537).
العصاة والمذنبين، وقد قلنا: إن حسن الظن بغير عمل غرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الكيِّسَ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله"
(1)
وهذا إنما يكون في حالة الصحة والقوة على العمل، وأما في حال حضور الموت، فليس ذلك الوقت وقتًا يقدر فيه على استئناف غير الفكر في سعة رحمة الله تعالى وعظيم فضله، وأنه لا يتعاظمه ذنب يغفره، وأنه الكريم الحليم الغفور الشكور"
(2)
.
وهذا الذي ذكره القرطبي هو الذي عليه عامة سلف الأمة، إذ العبد لابد له من الخوف والرجاء، فيستقيم سلوكه على أمر الله على هذين المسلكين، ويعالج نفسه بالخوف أحيانًا وبالرجاء أحيانًا، حسب ما يصلح به حاله.
قال الإمام أحمد: "ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدًا"
(3)
ونقل ابن رجب عن بعض السلف قوله: "من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن"
(4)
.
ولذا قال القرطبي عند قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}
(5)
: "هكذا حال العارف بالله تعالى بين الرجاء والخوف، لابد
(1)
رواه أحمد في مسنده (4/ 124) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (25) وقال هذا حديث حسن وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير ص (625) برقم (4305).
(2)
المفهم (7/ 143).
(3)
مسائل الإمام أحمد لابن هانيء (2/ 178).
(4)
التخويف من النار لابن رجب (17).
(5)
سورة الإسراء، الآية:57.
منها للمؤمن، ولذا قال بعض السلف: لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا، إلَّا أن الخوف أولى بالمسمى، لكن بحيث لا يقنط من رحمة الله، والرجاء أولى بالمحسن لكن بحيث لا يفتر فيكسل عن الاجتهاد في عبادة الله"
(1)
.
3 -
التوكل:
التوكل على الله من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد لله إلَّا بها، وقد جاءت النصوص في الدعوة إليه والحث عليه. قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}
(2)
، وقال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
(3)
، وقال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}
(4)
.
وقد عرَّف القرطبي رحمه الله التوكل، وبيَّن من يستحق أن يطلق عليه هذا الوصف فقال: "التوكل لغة: هو إظهار العجز عن أمر ما، والاعتماد فيه على الغير، والاسم: التكلان يقال منه: اتكلت عليه في أمري وأصله: إوتكلت: قلبت الواو تاءً لانكسار ما قبلها، ثم أبدل منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال ويقال: وكَّلته بأمر كذا توكيلًا، والاسم: الوكالة بكسر الواو وفتحها.
واختلف العلماء في التوكل، وفيمن يستحق "اسم المتوكل على الله"، فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلَّا من لم يخالط قلبه خوف
(1)
المفهم (7/ 358).
(2)
سورة هود، الآية 123.
(3)
سورة آل عمران، الآية:160.
(4)
سورة الأنفال، الآية:2.
غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى، وقال عامة الفقهاء: إن التوكل على الله هو الثقة بالله، والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لابد، منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة
…
ثم المتوكلون على حالين:
الحال الأول: حال التمكن في التوكل، فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاها إلَّا بحكم الأمر.
الحال الثاني: حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحيانًا، غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية"
(1)
.
وهو وإن ذكر قول غلاة المتصوفة في التوكل الذين يدعون إلى ترك الأخذ بالأسباب، فقد رد عليهم فيما ذهبوا إليه وبين ضلال ما هم عليه فقال:"العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرة أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل خلافًا لما ذهب إليه جُهَّال المتوكلة"
(2)
.
وبيَّن أن الأخذ بالأسباب ملازم للتوكل على الله، لا ينفك عنه حيث قال: استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وصيانة عيالك ومكارم أخلاقك، ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متكلًا على القدر، فتنسب للتقصير، وتلام على التفريط شرعًا وعادة، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلابد من الاستعانة بالله والتوكل عليه،
(1)
المفهم (1/ 467/ 468).
(2)
المفهم (6/ 186).
والالتجاء إليه في كل الأمور، فمن سلك هذين الطريقين حصل على خير الدارين"
(1)
.
ومما يبين أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم-من الأخذ بالأسباب والحزم في جميع الأمور، فقد حمل السلاح، ولبس في الحرب درعين، ومن تتبع سيرته عليه السلام علم منه ذلك علم اليقين، وهو عليه الصلاة والسلام إمام المتوكلين.
وقد بيَّن القرطبي حاله صلى الله عليه وسلم من أخذه بالأسباب وتوكله على الله تعالى، فقال في استنباطه لفوائد من غزوة الخندق:"منه جواز التحصن والاحتراز من المكروهات والأخذ بالحزم والعمل في العادات بمقتضاها، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل ولا منقص، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على كمال المعرفة بالله، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، ومع ذلك فلم يطرح الأسباب ولا مقتضى العادات على مايراه جهال المتزهدين أهل الدعاوي الممخرقين"
(2)
.
وحث على الاقتداء به عليه الصلاة والسلام فلنا فيه أسوة، حيث قال:"من أهمل شيئًا من الأسباب المعتادة زاعمًا أنه متوكل، فقد غلط، فإن التوكل لا يناقض التحرز، بل: حقيقته لا تتم إلَّا لمن جمع بين الاجتهاد في العمل على سنة الله، وبين التفويض إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(3)
.
(1)
المفهم (6/ 682).
(2)
المفهم (3/ 645).
(3)
المفهم (6/ 58).