الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عصمة الأنبياء
أرسل الله سبحانه وتعالى إلى الناس رسلًا منهم، قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
(1)
. وقد بيَّن الرسل عليهم السلام لأقوامهم أنهم من البشر، كما قال تعالى:{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
(2)
. فهم من البشر، لكن الله تعالى من عليهم فجعلهم خير البشر، ووضعهم في المكانة العليا من الكمال البشري، فحفظهم تعالى مما لا يليق بمكانتهم، ولا يتناسب مع رسالتهم. وهذا لا يتنافى مع بشريتهم التي بمقتضاها يحتاجون إلى الطعام والشراب، ويصيبهم ما يصيب البشر من الأمراض والأسقام والابتلاء والموت، قال لقرطبي:"الأنبياء من البشر يجوز عليهم من الأمراض والآلام، والغضب، والضجر، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك ما يجوز على البشر"
(3)
.
وقال المازري: "النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يكذب على الله، أو يفسد ما يبلغه عنه، وهو مع هذا غير معصوم من الأمراض، وما يكون من بعض عوارضها، مما لايعود بنقص في منزلته، ولا فساد فيما مهد من شريعته"
(4)
.
أما بالنسبة لعصمة الأنبياء: فالإجماع قد انعقد على عصمتهم
(1)
سورة آل عمران، الآية:164.
(2)
سورة إبراهيم، الآية:11.
(3)
المفهم (5/ 570).
(4)
المعلم (2/ 234).
- عليهم السلام من الكذب أو الخطأ في التبليغ. قال ابن تيمية: "فالأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه"
(1)
.
فلا خلاف في عصمتهم في تحمل الرسالة والتبليغ عن الله تعالى فلا ينسون شيئًا مما أوحاه الله إليهم، ولا يكتمون شيئًا، قال تعالي:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
(2)
، وقال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}
(3)
.
قال الشنقيطي: "واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ"
(4)
.
قال القرطبي: "الأنبياء معصومون عما يناقض دلالة المعجزة من معرفة الله تعالى، والصدق والعصمة عن الغلط في التبليغ، وعن هذا المعنى عبر الله تعالى بقوله:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}
(5)
من حيث البشرية: يجوز عليهم ما يجوز عليهم ومن حيث الخاصية النبوية: امتاز عنهم وهو الذي شهد له العلي الأعلى بأن بصره ما زاغ وما طغى وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحي يوحى وأنه ما ينطق عن الهوى"
(6)
.
وقال المازري: "الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله سبحانه، قل ذلك أو جل؛ لأن المعجزة تدل
(1)
الفتاوى (10/ 289).
(2)
سورة المائدة، الَاية:67.
(3)
سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
(4)
أضواء البيان (4/ 105).
(5)
سور الكهف، الآية:110.
(6)
المفهم (5/ 570)، وانظر: المفهم (6/ 167).
على صدقهم في ذلك"
(1)
.
وأما المعاصي: فالكبائر لا شك أنهم في عصمة منها، وأما الصغائر التي لا تزري بمكانتهم: فقد وقع الخلاف فيها بين أهل العلم، فذهب بعض العلماء إلى عصمتهم من الصغائر؛ لأن القول بوقوعهم فيها ينافي الاقتداء بهم والأمر بمتابعتهم إذ كيف يصح متابعتهم على المعصية؟
(2)
.
وذهب عامة العلماء إلى جواز وقوع الصغائر، منهم من دون إصرار عليها، ولا ملازمة لها، وقد جاءت النصوص في إثبات وقوع ذلك من الأنبياء ومعاتبة الله تعالى لهم. قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
(3)
وموسى عليه السلام لما قتل القبطي، قال الله تعالى عنه:{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ}
(4)
، وداود عليه السلام قال الله تعالى عنه:{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}
(5)
ففي مسارعتهم إلى التوبة وإنابتهم إلى ربهم زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم.
وأما القول بأن الوقوع في الصغائر يقدح بالتأسي فليس بصحيح، إذ التأسي يكون فيما يُقرّون عليه، كما أن النسخ جائز فيما يبلغون من الأمر والنهي، وليس تجويز ذلك مانعًا من وجوب الطاعة؛ لأن الطاعة تجب فيما لم ينسخ، فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل،
(1)
المعلم (3/ 131).
(2)
منهم: ابن الجوزي والحافظ ابن حجر وغيرهما. انظر: فتح الباري (11/ 105).
(3)
سورة طه، الآيتان: 121، 122.
(4)
سورة القصص، الآيتان: 15، 16.
(5)
سورة ص، الآيتان: 24، 25.
والأصل عدم كل منهما
(1)
.
وقد جعل شيخ الإسلام هذا القول أحد قولين متطرفين في مسألة العصمة، حيث قال: "واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه: قوم أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب، حتى حرفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب ومغفرة الله لهم ورفع درجاتهم بذلك، وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دلَّ القرآن على براءتهم منه وأضافوا إليهم ذنوبًا وعيوبًا نزههم الله عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف كان من الأمة الوسط مهتديًا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
(2)
.
فالقول الوسط في هذه المسألة هو أن الصغائر يجوز وقوعها من الأنبياء، ولكنهم لا يُقرّون عليها، ويسارعون بالتوبة منها، ولذا لم يذكر الله تعالى عن نبي شيئًا من ذلك إلَّا مقرونًا بالتوبة منه، وتوبة الله عليه.
وهذا ما ذهب إليه القرطبي حيث قال: "اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافًا كثيرًا، والذي ينبغي أن يقال: إن الأنبياء معصومون مما يناقض مدلول المعجزة عقلًا، كالكفر بالله تعالى والكذب عليه، والتحريف في التبليغ والخطأ فيه، ومعصومون من الكبائر، وعن الصغائر التي تزري بفاعلها، وتحط منزلته، وتسقط مروءته إجماعًا
…
واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم، فمن قائل: بالوقوع ومن قائل: بمنع ذلك، والقول الوسط في ذلك: أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا
(1)
الفتاوي لابن تيمية (15/ 148، 10/ 293).
(2)
الفتاوي (15/ 150).
منها، واستغفروا وتابوا وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويلات بجملتها، وإن قبل ذلك آحادها لكن الذي ينبغي أن يقال: إن الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر، ولا مما يزري بمناصبهم على ما تقدم ولا كثر منهم وقوع ذلك، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم، وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم، وإنما عُدِّدَتْ عليهم، وعوتبوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم
…
فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح ذلك في رتبتهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكَّاهم، واختارهم، واصطفاهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى يوم الدين، والكلام على هذه المسألة تفصيلًا يستدعي تطويلًا، وفيما ذكرناه كفاية والله الموفق للهداية
(1)
.
وقال المازري: "أما الكبائر: فهو عليه السلام معصوم منها إجماعًا، وأما الصغائر: فإن المجيزين لوقوعها من الرسل يمنعون أن تضاف إليه صلى الله عليه وسلم على جهة الانتقاص
(2)
.
(1)
المفهم (1/ 435، 434).
(2)
المعلم (2/ 24).