الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاء عن السلف.
وصف الله تعالى بالصورة:
ثبت وصف الله تعالى بالصورة في عدة أحاديث، منها ما جاء في الحديث الطويل في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه:"وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه"
(1)
.
وفي الحديث الآخر، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته"
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعًا"
(3)
، فأثبت جمهور السلف بهذه الأحاديث وصف الله بالصورة، إلَّا أن بعض علماء السنة خالف في ذلك، منهم ابن خزيمة وابن منده
(4)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث
(5)
عائدٌ إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على
(1)
رواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ح (7439)(13/ 431) ومسلم في كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية ح (183)(3/ 21).
(2)
سبق تخريجه ص (472).
(3)
رواه البخاري في كتاب الإستئذان باب بدء السلام ح (6227)(11/ 5) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ح (2841)(17/ 184).
(4)
انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 84 - 94) والتوحيد لابن منده (1/ 222، 224).
(5)
وهو حديث "خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعًا
…
".
ذلك
…
لكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدًا إلى غير الله تعالى، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة كأبي ثور
(1)
، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني
(2)
، وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة"
(3)
.
وقد أنكر القرطبي والمازري وصف الله تعالى بالصورة، وذكرا تأويلات عديدة لهذه الأحاديث، وأطال المازري جدًّا عند حديثه عن هذه المسألة على غير عادته.
قال القرطبي عند شرحه لحديث: "يأتيهم الله في صورته": "أما الصورة الثانية التي يعرفون عندما يتجلى لهم الحق، فهي صفته تعالى التي لا يشاركه فيها شيء من الموجودات، ولا يشبهه شيء من المصورات
…
ولا يستبعد إطلاق الصورة بمعنى الصفة، فمن المتداول أن يقال: صورة هذا الأمر كذا، أي: صفته"
(4)
.
وعند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله خلق آدم على صورته" قال: "أي على صورة وجه المضروب
…
وهذا هو ظاهر الحديث، ولا يكون في
(1)
إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي إمام حافظ فقيه من أصحاب الشافعي مفتي العراق في زمنه كان من العلماء الورعين والأئمة المجتهدين توفي سنة (240 هـ) سير أعلام النبلاء (12/ 72). طبقات الحفاظ ص (247) ترجمة (506).
(2)
عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ له العديد من المصنفات منها كتاب "العظمة" وغيره توفي سنة (369 هـ). سير أعلام النبلاء (16/ 276)، معجم المؤلفين (2/ 277).
(3)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1، 538/ 539) وقد نقله من كتاب "نقض أساس التقديس" لابن تيمية (3/ 202) فما بعدها.
(4)
المفهم (1/ 418).
الحديث إشكال يوهم في حق الله تعالى تشبيهًا، وإنما أشكل ذلك على من أعاد الضمير في صورته على الله تعالى، وذلك ينبغي ألَّا يصار إليه شرعًا ولا عقلًا، أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى، وأما الشرع فلم ينص على ذلك نصًّا قاطعًا، ومحال أن يكون ذلك، فإن النص القاطع صادق، والصادق لا يقول المحال، فيتعين عود الضمير على المضروب؛ لأنه هو الذي سبق الكلام لبيان حكمه، وقد أعادت المشبهة هذا الضمير على الله تعالى، فالتزموا القول بالتجسيم، وذلك نتيجة العقل السقيم والجهل الصميم، وقد بيَّنا جهلهم، وحقَّقنا كفرهم فيما تقدم، ولو سلمنا: أن الضمير عائدٌ على الله تعالى فللتأويل فيه وجه صحيح، وهو أن الصورة قد تطلق بمعنى الصفة، كما يقال: صورة هذه المسألة كذا، أي: صفتها، وصوَّر لي فلان كذا، فتصورته. أي: وصفه لي ففهمته، وضبطتُ وصفه في نفسي وعلى هذا فيكون معنى قوله:"إن الله خلق آدم على صورته" أي: خلقه موصوفًا بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصناف الحيوانات وخصه منه بما لم يخص به أحدًا من ملائكة الأرضين والسموات، وقد قلنا فيما تقدم: إن التسليم في المتشابهات أسلم، والله ورسوله أعلم"
(1)
.
وفي حديث: "خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعًا" قال: "هذا الضمير عائدٌ على أقرب مذكور، وهو آدم، وهو أعمُّ، وهذا الأصل في عود الضمائر، ومعنى ذلك أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالًا، ولا تردد في الأرحام أطوارًا، إذ لم يخلقه صغيرًا فكبر، ولا ضعيفًا فقوي، بل خلقه رجلًا كاملًا سويًّا قويًّا، بخلاف سُنَّة الله في ولده، ويصح أن يكون معناه للإخبار عن أن الله تعالى
(1)
المفهم (6/ 597).
خلقه يوم خلقه على الصورة التي كان عليها بالأرض، وأنه لم يكن في الجنة على صورة أخرى، ولا اختلفت صفاته، ولا صورته، كما تختلف صور الملائكة والجن، والله تعالى أعلم، ولو سلَّمنا أن الضمير عائدٌ على الله تعالى لصح أن يقال هنا: إن الصورة بمعنى الصفة"
(1)
.
وأما المازري فعند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل
…
فإن الله خلق آدم على صورته" قال: هذا الحديث ثابت عند أهل النقل، وقد رواه بعضهم: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"
(2)
ولا يثبت هذا عند أهل النقل، ولعلَّه نُقِلَ من راويه بالمعنى الذي توهمه، وظن أن الضمير عائدٌ على الله سبحانه، فأظهره، وقال: على صورة الرحمن.
واعلم أن هذا الحديث غلط فيه ابن قتيبة وأجراه على ظاهره، وقال: فإن الله سبحانه له صورة، لا كالصور، وأجرى الحديث على ظاهره، والذي قاله لا يخفى فساده؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، والباري سبحانه ليس بمحدث، فليس بمركب، وما ليس بمركب فليس بمصور، وهذا من جنس قول المبتدعة: إن الباري عز وجل جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة يقولون: الباري سبحانه شيء لا كالأشياء طردوا هذا، فقالوا: جسم لا كالأجسام، وقال ابن قتيبة: صورة لا كالصور، وعجبًا لابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور، مع كون هذا الحديث يقتضي ظاهره عند خلق آدم على صورته، فقد صارت صورة الباري سبحانه على صورة آدم عليه السلام على ظاهر هذا على أصله، فكيف يقول على صورة آدم، ويقول: إنها لا كالصور، هذا تناقض، ويقال له أيضًا: إن أردت بقولك صورة لا كالصور، أنه ليس بمؤلف ولا
(1)
المفهم (7/ 183).
(2)
سيأتي تخريجه عند رد الحافظ ابن حجر على المازري في رده لهذا الحديث.
مركب، فليس بصورة على الحقيقة، وأنت مثبت تسمية تفيد في اللغة معنى مستحيلًا عليه تعالى مع نفي ذلك المعنى، فلم تعط اللفظ حقه، ولم تجره على ظاهره، فإذا سلمت أنه ليس على ظاهره، فقد وافقت على افتقاره إلى التأويل، وهذا الذي نقول به، فإذا ثبت افتقاره إلى التأويل قلنا: اختلف الناس في تأويله، فمنهم: من أعاد الضمير إلى المضروب، وذكر أن في بعض طرق الحديث أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبهك، أو نحو هذا، فقال صلى الله عليه وسلم ما قال، أما على هذه الرواية وهي شتم من أشبهه، فبيَّن وجه هذا التعليل؛ لأنه إذا شتم من أشبهه فكأنه شتم آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام، وقال آخرون: إن الضمير عائد على آدم نفسه، وعورض هؤلاء بأن هذا يجعل الكلام غثًا لغوًا لا فائدة تحته، وردوا على هذا الاعتراض بأن فيه فائدة وهو الرد على الطبائعيين الذين يعتقدون أن تصوير آدم كان على بعض تأثيرات النجوم، أو على الدهريين بقولهم: ليس ثم إنسان أول، إنما الإنسان من نطفة، والنطفة من إنسان، هكذا أبدًا إلى غير أول، أو على القدرية في قولهم: إن كثيرًا من أعراض آدم وصفاته خلق لآدم، ولكن لا يحسن مع ذكر سبب الحديث، وهو قوله: "إذا قاتل أحدكم أخاه
…
" وقال آخرون: الضمير يعود إلى الله ويكون له وجهان: أحدهما أن يراد بالصورة الصفة، كما يقال: صورة فلان عند السلطان كذا، أي صفته، وذلك لصفات الكمال التي تميز بها آدم عليه السلام.
والثاني: أن تكون إضافة الصورة إضافة تشريف واختصاص كما قيل في الكعبة بيت الله، وقيل ناقة الله"
(1)
.
(1)
المعلم (3/ 169) بتصرف.
فمن خلال هذه النقولات عن القرطبي والمازري في هذه الصفة تبين تأويلهم لها، وحرصهم على صرفها عن ظاهرها.
فالقرطبي جعل إطلاق الصورة في حديث: "فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون" بمعنى الصفة.
وأما في الحديثين الآخرَين وهو قوله: "إذا قاتل
…
فإن الله خلق آدم على صورته"، وقوله: "خلق الله آدم على صورته ستون ذراعًا" فأعاد الضمير في الحديث الأول على المضروب، والضمير في الحديث الثاني إلى آدم نفسه. وبيَّن أنه لو سلم بعودة الضمير فيهما إلى الله فيكون معنى صورته أي: صفته، وأما المازري فقد رد حديث: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" ورد على ابن قتيبة في إثباته الصورة، وقوله: صورة لا كالصور. ثم بيَّن التأويلات في هذا الحديث، وهو قوله عليه السلام: "إذا قاتل .. فإن الله خلق آدم على صورته" فجعل الضمير إما يعود إلى المضروب، أو إلى آدم نفسه، وبيَّن أنه لو فرض عودته إلى الله تعالى لكان المقصود بالصورة، إما الصفة أو قصد بذلك التشريف.
فيكون الرد هنا أولا على المازري في رده لحديث: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" وفي رده على ابن قتيبة ثم نتبع ذلك بالرد على هذه التأويلات التي ذكرها القرطبي والمازري بما يبطلها من كلام أهل السنة.
أما رد المازري لحديث: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" فقد قال الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام المازري السابق في الفتح: "وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة" ثم قال: "وعلى صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى".
قلت - أي: ابن حجر -: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في
"السنة"
(1)
والطبراني
(2)
من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات، وأخرجها ابن أبي عاصم أيضًا من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول
(3)
قال: "من قاتل فليجتنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن"
(4)
.
وأما رد المازري على ابن قتيبة، فذلك بناء على قواعد المتكلمين الفاسدة في جعل إثبات الصفات لله تعالى يستلزم التجسيم والتشبيه، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وقد سبق تفنيد هذه الشبه وإبطالها.
وأنكر على ابن قتيبة قوله: صورة لا كالصور، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذين يثبتون الصفات بالنصوص الصحيحة من الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
(5)
فمع إيمانهم بالصفات الثابتة لله تعالى، فهم ينفون وينكرون تشبيه الله تعالى بخلقه، ولو اتفقت المسميات، فكما أن ذاته ليست كذوات المخلوقين، فصورته سبحانه ليست كصور المخلوقين، وكذلك يقال في الوجه واليد والأصابع، وسائر صفات الله سبحانه وتعالى.
فأهل السنة والجماعة يجمعون بين الإيمان بالنصوص، وتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين.
(1)
السنة لابن أبي عاصم (1/ 230).
(2)
المعجم الكبير للطبراني (12/ 430) وقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 87) وأعله بثلاث علل وضعفه الألباني في تخريجه لكتاب السنة لابن أبي عاصم (1/ 230).
(3)
وهو إعادة الضمير على المضروب.
(4)
فتح الباري (5/ 217).
(5)
سورة الشورى، آية:11.
وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هؤلاء الذين يزعمون أن إثبات هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" مع قولهم: صورة لا كالصور من باب التناقض، حيث قال: "فإن قيل بأن هذا تصريحٌ أن وجه الله يشبه وجه الإنسان فيقال: لا ريب أن كل موجودين لابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى من الآخر، وإلا إذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلًا ولا يشتركان فيه، لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية، وهذا الذي جاءت به السنة من ثبوت الشبه من بعض الوجوه، وقد أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب قبوله والإيمان به، والله تعالى هو الذي خلق آدم على صورته، وهذا لا يناقض قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأن المماثلة منفية عن الله تعالى على كل حال، وهذا لا يمنع المشابهة من بعض الوجوه البعيدة، كالوجود والعلم والحياة ونحو ذلك، مع أن المحذور الذي فروا منه إلى تأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فإن كان مثل هذا لازمًا على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه مع أنه لا محذور فيه.
والتشبيه المنفي بالنص والإجماع والأدلة العقلية الصحيحة منتف على التقديرين، فلابد أن يكون بين الذات والذات مشابهة إذا كان على الصفة المعنوية، فكون هذا عالمًا قادرًا، وهذا عالمًا قادرًا، وهذا ذاتًا لها صفات، وهذا ذاتًا لها صفات، لابد أن يثبت التشابه. فوجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل، وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل. كذلك ثبوت ذات لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل، وثبوت المشابهة من بعض الوجوه في الأمور الكمالية معلوم
بالشرع والعقل"
(1)
.
"وقد بيَّن أهل السنة أن إعادة الضمير في حديث "خلق الله آدم على صورته" على غير الله هو قول الجهمية، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه"
(2)
.
قال شيخ الإسلام: "أما عود الضمير إلى غير الله فباطل من وجوه:
- ما في الصحيحين ابتداءً "أن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعًا" وفي أحاديث أخر: "إن الله خلق آدم على صورته" ولم يقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه، وما ذكر بعضهم: من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يضرب رجلًا، ويقول: قبَّح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فقال:"خلق الله آدم على صورته" أي صورة هذا المضروب، فهذا شيء لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث.
- أن الحديث الآخر لفظه: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه.
- أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد لاسيما وقوله:"إذا قاتل أحدكم" و "إذا ضرب أحدكم" عامٌّ في كل مضروب، والله خلق آدم على صورهم جميعًا، فلا معنى لإفراد الضمير.
(1)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 558، 561) بتصرف وقد نقله من كتاب "نقض أساس التقديس" لابن تيمية (2/ 273، 285).
(2)
إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 88).
- أن ذرية آدم خُلِقُوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم.
- أنه لو أُريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ "خلق" على كذا، فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره.
- أن يقال: كون الوجه يشبه وجه آدم مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم، لو صح أن هذا علة منع الضرب لوجب هذا الحكم لسائر الأعضاء وهذا لا يقوله أحد.
وأمَّا عود الضمير على آدم ففاسد؛ لأنه كون آدم خلق على صورة آدم ليس له معنى، وليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه، ولا عن تقبيحها، كذلك الله خلق سائر أعضاء آدم غلى صورة آدم، فيكون هذا مانعًا من ضرب سائر الأعضاء، وهذا معلوم الفساد.
أما تأويلهم الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة، ولم يتكون في مدة طويلة، فلو كانت هذه العلة هي المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه، كونه خلق على هذا الوجه، وهذه العلة منتفية في بنيه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها لانتفاء العلة إذ هم لم يخلقوا على صورهم التي هم عليها إضافة إلى أن هذا القول لا دليل عليه، وليس في هذه الأحاديث ما يدل عليه بحال من الأحوال"
(1)
.
وقد أطال شيخ الإسلام في رد هذه التأويلات بما يبطلها فاكتفينا بنقل بعضه مختصرًا خشية الإطالة.
أما قولهم: إن المراد بالصورة: الصفة فهو فاسد؛ لأن الصورة هي الصورة الموجودة في الخارج ولفظ: "صَوَرَ" يدل على ذلك، وما من
(1)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 540، 545) بتصرف وإختصار وقد نقله من كتاب "نقض التأسيس" لابن تيمية (3/ 202) فما بعدها.
موجود من الموجودات إلَّا وله صورة في الخارج. أما الصفة فهي: مصدر وصفت الشيء أصفه وصفًا ثم يسمون المفعول باسم المصدر صفة. فتفسير الصورة بمجرد الصفة التي تقوم بالأعيان كالعلم والقدرة فاسد؛ لأن قول القائل: صورة فلان لا يقصد مجرد الصفات القائمة به من العلم والقدرة وغيرها، بل هذا من الجناية على اللغة وأهلها. وإذا دلَّ لفظ الصورة على صفة قائمة بالموصوف أو بالذهن واللسان فلابد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية، كما يمكن أن يقال لمن يقول بهذا: المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن يصحح قول القائل: إن الله خلق آدم على صورة الله، أو لا يصحح ذلك، فإن لم يصحح ذلك بطل قولك. وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق جاز أن يقال: إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته، بل خلق كل حي على صورته، إذ ما من شيء من الأشياء إلَّا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة، كالوجود والقيام بالنفس وحمل الصفات، فعلى هذا يصح أن يقال في كل جسم وجوهر: إن الله خلقه على صورته، فبطل هذا التأويل على التقديرين
(1)
.
وأما القول بأن هذا من إضافة التشريف كناقة الله، وبيت الله، فقد رد شيخ الإسلام هذا القول فقال: "إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها، كالناقة والبيت، فأما الصفات القائمة بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة إذا أضيفت كانت إضافة صفة إلى موصوف، فالأعيان القائمة بنفسها قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله تعالى فيعلمون أنها ليست إضافة صفة، وعلى هذا فالصورة قائمة
(1)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 510، 531، 553، 557، بتصرف وقد نقله من كتاب "نقض أساس التقديس" لابن تيمية (3/ 202). فما بعدها.
بالموصوف بها المضافة إليه، فصورة الله كوجه الله، ويد الله وعلم الله، ويمتنع أن تقوم بغيره، كما أنه لابد أن يكون في العين المضافة إلى الله تعالى معنى يختص بها تستحق به الإضافة، وأما الصور المخلوقة، فهي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه، فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله تعالى؟ وأيضًا فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله تعالى خلق ذلك جميعه فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله بهذا الاعتبار"
(1)
.
وبهذا يعرف أن الحق هو ما عليه جماهير أهل السنة والجماعة في إئبات وصف الله تعالى بالصورة كما جاء في هذه الأحاديث. ويتبين بطلان قول من وصف من أثبت الصورة بالتجسيم، والحكم عليهم بالكفر لأجل هذا الاعتقاد الذي وافقوا فيه النصوص. وهذا موقف المؤولة والنفاة من أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات، ولو تصوروا أن هذا الوصف الذي ألصقوه والحكم الذي أطلقوه يشمل: الصحابة والتابعين وسلف الأمة من عباد الله الصالحين الذين كانوا على هذا الاعتقاد لخاف على نفسه ورجع عن قوله.
قال ابن قتيبة رحمه الله: "لذي عندي والله أعلم أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد"
(2)
.
وهذا هو الحق والصواب الذي عليه الأدلة واضحة من الكتاب والسنة.
(1)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 563، 566) بتصرف وقد نقله من كتاب "نقض أساس التقديس" لابن تيمية ص (3/ 273، 285).
(2)
تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص (220).