الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشمال بما هو دونها، وجرى في ذلك على حكم التمثيل الذي به افتتح فختم عليه، وهذا الذي ظهر إليَّ في هذا الحديث"
(1)
.
صفة الأصابع:
الأصابع ثابتة لله عز وجل بالسنة الصحيحة، فقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على أصبع، والشجر والثرى على أصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
(2)
"
(3)
.
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"
(4)
. قال ابن خزيمة رحمه الله: "باب إثبات الأصابع لله عز وجل"
(5)
ثم ذكر بالأسانيد ما يثبت ذلك
(6)
.
وقال الآجري: "باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من
(1)
المعلم (3/ 196).
(2)
سورة الزمر، آية:67.
(3)
رواه البخاري في كتاب التوحيد باب قوله تعالى: "لما خلقت بيدي" ح (7415)(13/ 404) ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ح (2786)(17/ 135).
(4)
رواه مسلم في كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء ح (2654)(16/ 443).
(5)
كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 187).
(6)
المرجع السابق (1/ 187 - 192).
أصابع الرب عز وجل بلا كيف"
(1)
.
وقال البغوي: "والإصبع المذكور في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل من صفات الله عز وجل كالنفس والوجه والعين واليد والرجل
…
"
(2)
.
ومع هذه النصوص الصريحة في إثبات الأصابع لله تعالى على الوجه الذي يليق به سبحانه من غير تشبيه كما هو مذهب أهل السنة، إلَّا أن القرطبي والمازري سارا على المذهب المخالف لمذهب السلف في تأويل هذه الصفات، وصرف هذه النصوص عن ظواهرها بتأويلات بعيدة لا تحتملها ألفاظ النصوص الواردة.
قال القرطبي في شرحه للحديث الأول: "قول اليهودي: إن الله يمسك السموات على إصبع
…
الحديث إلى آخره" هذا كله قول اليهودي لا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب على اليهود أنهم يعتقدون الجسمية، وأن الله تعالى شخص، ذو جوارح، كما تعتقده غلاة الحشويَّة في هذه الملة، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو تعجب من جهله، ألا ترى أنه قرأ عند ذلك:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
(3)
أي: ما عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، وهذه الرواية هي الرواية الصحيحة المحققة، فأما رواية من زاد في هذا اللفظ تصديقًا له، فليست بشيء؛ لأنها من قول الراوي، وهي باطلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق الكاذب، ولا المحال، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال بدليل ما قدمناه غير مرة، وحاصله: أنه لو كان ذا يد وأصابع وجوارح على نحو ما هو المعروف
(1)
الشريعة للآجري (3/ 1156).
(2)
شرح السنة للبغوي (1/ 166).
(3)
سورة الزمر، آية:67.
عندنا لكان كواحدٍ منا، ويجب له من الافتقار والحدث والنقص والعجز ما يجب لنا، وحينئذ تستحيل عليه الإلهية، ولو جازت الإلهية لمن كان على هذه الأوصاف لجاز أن يكون كل واحد منا إلهًا ولصحت الإلهية للدجال، ولصدق في دعواه إياها، وكل ذلك كذب ومحال، والمفضي إليه كذب ومحال، فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله تعالى في الرد عليه:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله فوهم الراوي، وظن أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك، فإن قيل: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن"
(1)
فقد أخبر بأن له أصابع، فالجواب: أنه إذا جاءنا مثل هذا في كلام الصادق تأولناه، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه، فأما إذا جاءنا مثل هذا على لسان من يجوز عليه الكذب بل من أخبرنا الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف، كذبناه وقبحناه، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه وقال له: صدقت، لما كان تصديقًا له في المعنى، بل: في النقل أي: في نقل ذلك عن كتابه أو عن نبيه، وحينئذ نقطع بأن ظاهره غير مراد، ثم هل نتوقف في تعيين تأويل ونسلِّم، أو نبدي تأويلًا له وجه في اللسان وصحة في العقل، على الرأيين اللذين لأئمتنا، وقد تقدما، وقد قلنا: إن الإصبع يصح أن يراد به القدرة على الشيء ويسارة تقليبه، كما يقول من استسهل شيئًا واستخفه مخاطبًا لمن استثقله: أنا أحمله على إصبعي، أو أرفعه بإصبعي، وأمسكه بخنصري، وكما يقول من طاعَ بحمل شيء: أنا أحمله على عيني، وأرفعه على رأسي يعني به: الطواعية وما أشبه ذلك مما في معناه، وهو كثير، ولما كان ذلك معروفًا عند العقلاء متداولًا بينهم
(1)
سبق تخريجه ص (537).
خوطبوا بذلك جريًا على منهاجهم، وتوسعًا معلومًا عندهم، وعلى هذا فيمكن حمل الحديث وما في معناه على نحو من هذا، وبيان ذلك: أن السموات والأرض وهذه الموجودات عظيمة أقدارها في إدراكنا، وكبير خلقها في حقنا، فقد يسبق الوهم الغالب على الإنسان أن خلقها وإمساكها على الله كبير، وتكلفها عسير، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم بهذا الحديث، وبيَّنه على طريق التمثيل بما تعارفناه، فكأنه قال: خلق بيده المذكورات العظيمة، وإمساكها في قدرة الله تعالى كالشيء الحقير الذي تجعلونه بين أصابعكم وتهزُّونه بين أيديكم، وتتصرفون فيه كيف شئتم، ولهذا أشار بقوله:"ثم يقبض أصابعه ويبسطها"
(1)
، وبقوله:"ثم يهزهن" أي: هن في قدرته كالحبة مثلًا في حق أحدنا، أي: لا يبالي بإمساكها ولا بهزها، ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا يجد في ذلك صعوبة ولا مشقة، ومن لا يقنعه هذا التفهيم فليس له إلَّا سلامة التسليم، والله بحقائق الأمور عليم"
(2)
.
وفي شرحه للحديث الثاني بين أن إثبات الإصبع لله محال، ثم ذكر تأويلات لهذا الحديث، وهي: أن هذا الإصبع يراد به بيان التمكن منه، والتصرف فيه، أو إن الإصبع في الحديث يراد به النعمة والتثنية لأجل نعمة النفع، ونعمة الدفع، فيصرفُ اللهُ عن القلوب ضرًّا ويوصل إليها نفعًا، ثم رد هذا بأنه نفع ودفع يختص بقلوب الصالحين، فتشكل قلوب الفساق والكفار، فرجح تأويله بالنعمة وختمه بقوله: التسليم هو الطريق السليم"
(3)
.
(1)
سبق تخريجه ص (537).
(2)
المفهم (7/ 389).
(3)
انظر: المفهم (6/ 672).
وقال المازري في شرح الحديث الأول: "الإصبع قد يراد به معنى الاقتدار، وقد يراد به معنى النعمة، وهذا الحديث، قد يراد به أن الله خلق السموات على عظمها مقتدرًا عليها، من غير أن يمسه تعب ولغوب، كما أن الإنسان منا لا يشق عليه ولا يتعبه ما يصرفه على إصبعه، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذه المعاني احتقارًا، ويقولون: بإصبع واحدة أقتلك، أو أفعل كذا أوكذا، فقد يراد هَهُنا هذا المعنى أن الله سبحانه لم يتعبه خلق ما ذكر ولا شق عليه على عظم مخلوقاته هذه، وقد قال بعض الناس: قد يكون بعض المخلوقات اسمه إصبع، فأخبر بخلق هذه الأشياء عليه، وقال بعضهم: يحتمل أن يُراد إصبع بعض خلقه، وهذا غير مستنكر في قدرة الله سبحانه، والغرض المنع أن يكون لله سبحانه إصبع الجارحة لإحالة العقل له، ثم بعد هذا يتأول على ما يجوز، وقد أرينا طرقًا من التأويل"
(1)
.
وقال عند شرحه للحديث الثاني: "هذا تجوز وتوسع كما يقول القائل: فلان في قبضتي، وبكفي، ولا يريد أنه حال بكفه، وإنما المراد أنه تحت قدرتي، وكذلك يقال: ما أفعل هذا إلَّا بإصبعي، أو فلان بين إصبعي أصرفه كيف شئت، ولا يريد أنه حالٌّ بين الإصبعين، وإنما يريد: أنه هين عليه القهر له، والغلبة، وتصريفه كيف شاء، فكذلك المراد بقوله: "إصبعين من أصابع الرحمن" أي: أنه متصرف بحسب قدرته ومشيئته سبحانه وتعالى لا يعتاص عليه، ولا يفوته ما أراد منه، كما لا يعتاص على الإنسان ما كان بين إصبعيه، ولا يفوته وخاطب العرب من حيث تفهم، ومثَّل بالمعاني المحسوسة تأكيدًا للمعاني في نفوسها، فإن
(1)
المعلم (3/ 195).
قيل: فإن قدرة الله سبحانه واحدة، والإصبعان ههنا اثنان، قيل: قد أخبرنا أن ذلك مجاز واستعارة وتمثيل، فوقع الكلام على حسب ما اعتادوه في هذا الخطاب غير مقصود منه إلى تثنية أو جمع، ويحتمل أن يُراد بالإصبع ههنا النعمة ويقال: عندي لفلان إصبع حسنة، أي يد جميلة، ولكن يقال على هذا: فلم ثنَّى النعمة؟ ونعم الله لا تحصى، قيل: لا تحصى آحادها، والأجناس قد تحصى، فيكون المراد بالنعمتين اللتين عبر عنهما بالإصبعين نعمة النفع ونعمة الدفع، فنعمة النفع هي الظاهرة، ونعمة الدفع هي الباطنة، وقد قيل في قوله تعالى:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
(1)
: إن الظاهرة نعمة النفع والباطنة نعمة الدفع، وقلب العبد للباري سبحانه عليه نعمة نفع ونعمة دفع، فلا يبعد أن يراد بالنعمتين هاتان أو غيرهما من الأجناس التي تليق بهذا"
(2)
.
وكلام القرطبي والمازري في هذه الصفة يدل على التكلف الشديد والحرص الأكيد على صرف النص عن ظاهره لزعمهم أن إثباته يستلزم أن يكون من جنس أصابع المخلوقين، وهذا ظنٌّ سيء بالله تعالى، وبكلامه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقعوا فيه بسبب تأثرهم بالمنهج الكلامي الفاسد المتناقض.
وأهل السنة ينفون التشبيه عن الله تعالى مع إيمانهم بالنصوص وتسليمهم بمقتضاها.
ونرى القرطبي قد صرف الحديث الأول عن الاستدلال به على هذه الصفة إذ جعل هذا من كلام اليهودي الذي أنكره الرسول صلى الله عليه وسلم بضحك
(1)
سورة لقمان، آية:20.
(2)
المعلم (3/ 179).
المعجب من جهله، وإن في تلاوته عليه الصلاة والسلام للآية ردٌّ عليه، ووهَّم الراوي في قوله ضحك "تصديقًا له".
ولا شك أن طعنه في الراوي مما لا يسلَّم له، إذ في هذا طعن بالثقات الأثبات من الرواة، وردٌّ للأخبار الثابتة حرصًا على أصولهم الفاسدة، ولو كان الأمر على خلاف ما ظن الراوي لكان الرسول صلى الله عليه وسلم مُقرًّا له على الباطل، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
قال الإمام ابن خزيمة في رد هذا الرأي، وبيان فساده:"قد أجل الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق البارئ بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكًا تبدو نواجذه تصديقًا وتعجبًا لقائله. لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته"
(1)
.
ونعلم من وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان شديد الغضب لله تعالى ومواقف إنكاره وغضبه صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله لا تخفى على مُطَّلع على سنته وسيرته.
ثم صرف القرطبي والمازري لهذا الحديث وللحديث الآخر بتأويلات باطلة بعيدة، كقولهم: إن هذا من المجاز والاستعارة الجارية مجرى المثل، أو إن المقصود بالإصبع: القدرة، أو النعمة، أو المقصود: خلق من خلق الله اسمه "إصبع" أو إصبع بعض خلقه، وغيرها من التأويلات التي يغني عرضها عن نقدها.
وهما قد ترددا في ذلك، وبحثا عن كل مخرج إلَّا الإثبات الذي عليه سلف الأمة وأتباعهم من الخلف.
(1)
التوحيد لابن خزيمة (1/ 178).
وقد رد عليهم ابن قتيبة رحمه الله هذه التأويلات بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن" حيث قال: "ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح، وأن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه عليه السلام قال في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" فقالت له إحدى أزواجه: أَوَتَخَاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: "إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله عز وجل"
(1)
فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى فهو محفوظ بتينك النعمتين، فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولم احتج على المرأة التي قالت له:"أتخاف على نفسك؟ " بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسًا بنعمتين. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ههُنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: "ويحمل الأرض على إصبع"، وكذا "على إصبعين" ولا يجوز أن تكون الإصبع ههنا نعمة، وكقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
(2)
ولم يجز لك ولا نقول: إصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا؛ لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئًا منا"
(3)
.
وقال أبو يعلى في إبطال هذه التأويلات: "فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع: الملك والقدرة، ويكون فائدته أن قلوبهم في قبضته جارية على قدرته، وذكر هذا عليه السلام عن طريق المثل.
(1)
رواه الترمذي في أبواب الدعوات باب (90) وقال: حديث حسن وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 171).
(2)
سورة الزمر، آية:67.
(3)
تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص (209).