الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحجوبين"
(1)
.
قال القرطبي: "أكثر المبتدعة على إنكار جوازاها في الدنيا والآخرة - أي الرؤية - وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
(2)
فامتن على عباده المؤمنين بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة، وقد تواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم بوقوع رؤية الله تعالى في الآخرة كرامة للمؤمنين، فمذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم، كما نطق بذلك الكتاب وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة عشر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(3)
.
وقال المازري في شرحه لحديث إنكار عائشة رضي الله عنها على من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه: "وإنكارها في هذا الحديث وفي غيره على من سألها عن الرؤية محمله عند أهل العلم على أنها إنما أنكرت الرؤية في الدنيا، لا أنها ممن تحيل جواز رؤية الباري سبحانه كما قالت المعتزلة"
(4)
.
الرد على منكري الرؤية:
سبق القول في بيان اتفاق أهل السنة والجماعة ومن وافقهم على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، والتي قد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على إثباتها.
وقد خالف في هذه المسألة طوائف من المبتدعة من المعتزلة
(1)
حادي الأرواح (1/ 205).
(2)
سورة القيامة آية: 22، 23.
(3)
انظر المفهم (1/ 401، 402، 413، 414).
(4)
المعلم (1/ 223).
والجهمية ومن تبعهم من الخوارج وبعض الشيعة والمرجئة
(1)
.
قال القرطبي: "فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة"
(2)
وقال: "ومنع ذلك - أي الرؤية - فرق من المبتدعة منهم: المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة"
(3)
.
وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه من الباطل بأدلة سمعية لا تسلم لهم منها قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}
(4)
، فقالوا: نفى الله تعالى في الآية أن يدرك بالأبصار.
قال القرطبي في نقض هذا الاستدلا: "الاستدلال بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فيه بعد إذ يفرق بين الإدراك والإبصار، فيكون معنى {لَا تُدْرِكُهُ}: لا تحيط به مع أنها تبصره، قاله سعيد بن المسيب. وقد بقي الإدراك مع وجود الرؤية في قوله تعالى:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا}
(5)
أي: لا يدركونكم، وأيضًا: فإن الإبصار عموم، وهو قابل للتخصيص، فيخصص بالكافرين، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)}
(6)
ويكرم المؤمنون أو من شاء منهم بالرؤية، كما قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
(7)
. وبالجملة فالآية ليست نصًّا، ولا من
(1)
انظر الرؤية وتحقيق الكلام فيها للحمد ص (26).
(2)
المفهم (1/ 401).
(3)
المفهم (1/ 414).
(4)
سورة الأنعام، آية:103.
(5)
سورة الشعراء، آية: 61، 62.
(6)
سورة المطففين، آية:15.
(7)
سورة القيامة، آية: 22، 23.
الظواهر الجلية فلا حجة فيها"
(1)
.
قال ابن القيم حول قوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
(2)
: فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية، ولم يريدوا بقولهم:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} إنا لمرئيون، فإن موسى عليه السلام نفى إدراكهم إياهم بقوله:{كَلَّا} وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}
(3)
فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من بعدهم من الآية، قال ابن عباس رضي الله عنهما:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : لا تحيط به الأبصار، وقال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن عطية: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم"
(4)
.
قال الحافظ ابن حجر: "أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعًا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته"
(5)
.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. . .}
(6)
. قال القرطبي: "لا حجة
(1)
المفهم (1/ 404).
(2)
سورة الشعراء، آية:61.
(3)
سورة طه، آية:77.
(4)
حادي الأرواح (1/ 202).
(5)
فتح الباري (13/ 435).
(6)
سورة الشورى، آية:51.
فيها على نفي الرؤية، إذ يقال بموجبها: فإن مقتضاها نفي كلام الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، وإنما يصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم على ضعف في ذلك لا يخفى على متأمل، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدًا رأى ربه وكلَّمه دون واسطة، فقال: هي ثلاثة أقسام: من وراء حجاب كتكليم موسى، وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء، ولم يبق من تقسيم المكالمة إلَّا كونها مع المشاهدة وهذا أيضا فيه نظر"
(1)
.
وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استدل به أهل السنة على وقوع الرؤية وهو قوله عليه السلام: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك"
(2)
. قال المازري: "في هذا الحديث رد على المعتزلة في إحالتهم رؤية الباري عز وجل"
(3)
.
وقد أوَّل النفاة هذه الرؤية، وقالوا: المقصود بها العلم، فرد القرطبي عليهم في ذلك فقال: هذا تشبيه للرؤية ولحالة الرائي لا المرئي ومعناه: إنكم تستوون في رؤية الله تعالى من غير مضارة، ولا مزاحمة، كما تستون في رؤية الشمس والبدر عيانًا، وقد تأولت المعتزلة الرؤية في هذه الأحاديث بالعلم، فقالوا: إن معنى رؤيته تعالى أنه يعلم في الآخرة ضرورة، وهذا خطأ لفظًا ومعنًى. أما اللفظ: فهو أن الرؤية بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وهي
(1)
المفهم (1/ 405).
(2)
رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ح (7437)(13/ 430) ومسلم في كتاب الإيمان باب معرفة الرؤية ح (182)(3/ 21).
(3)
المعلم (1/ 225).
قد تعدت هنا إلى مفعول واحد، فهي للإبصار، ولا يصح أن يقال: إن الرؤية بمعنى: المعرفة؛ لأن العرب لم تستعمل رأيت بمعنى: عرفت، لكن بمعنى: علمت أو أبصرت، واستعملت علمت بمعنى: عرفت، لا رأيت بمعنى: عرفت. وأما المعنى فمن وجهين:
أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام شبه رؤية الله تعالى بالشمس، وذلك التشبيه لا يصح إلَّا بالمعاينة.
وثانيهما: أن الكفار يعلمونه تعالى في الآخرة بالضرورة، فترتفع خصوصية المؤمنين بالكرامة، وبلذة النظر وذلك التأويل منهم تحريف حملهم عليه ارتكاب الأصول الفاسدة"
(1)
.
وهذه الأصول الفاسدة التي حملتهم على نفي الرؤية هي أدلتهم العقلية التي قال عنها القرطبي: "منع فرق من المبتدعة الرؤية بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقليةً كاشتراط البنية المخصوصة، والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع من القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجب الحائلة، في خبط لهم وتحكم، وأهل الحق لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلًا، سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئي، لكن يقترن بالرؤية بحكم جريان العادة أحوال يجوز في العقل شرعًا تبدلها، والله أعلم"
(2)
.
وقال في موضع آخر: "أهل السنة لا يشترطون في الرؤية عقلانية مخصوصة، ولا مقابلة ولا قربًا، ولا شيئًا مما يشترطه المعتزلة وأهل البدع، وأن تلك الأمور إنما هي شروط عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة مع إحالة
(1)
المفهم (1/ 415).
(2)
المفهم (1/ 414).
تلك الأمور كلها، ولما ذهب أهل البدع إلى أن تلك الشروط عقلية، استحال عندهم رؤية الله تعالى فأنكروها وخالفوا قواطع الشريعة التي وردت بإثبات الرؤية، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون"
(1)
.
وكلام القرطبي هذا غير مسلم على إطلاقه ولا تصح نسبته لأهل السنة، فاشتراط المقابلة وزوال الموانع أمر معقول إذ رؤية ما لا يعاين ولا يواجه غير متصور في العقل
(2)
.
لكن نفي الرؤية بسبب ذلك باطل من أصله، وهو مذهب أهل البدع، والقول بأن الله يرى من غير مقابلة ولا مواجهة، هو قول الأشاعرة دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة
(3)
.
قال شارح الطحاوية: "هل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله! ! فإما أن يكون مكابرًا لعقله أو في عقله شيء، وإلَّا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة، ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة؟ "
(4)
.
ولهذا صار حذَّاق الأشاعرة إلى إنكار الرؤية "وقالوا: قولنا هو قول المعتزلة في الباطن، فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا تنازع فيه المعتزلة"
(5)
.
(1)
المفهم (2/ 57).
(2)
انظر: الفتاوى لابن تيمية (16/ 85).
(3)
المرجع السابق (16/ 84).
(4)
شرح الطحاوية (1/ 219).
(5)
الفتاوى لابن تيمية (16/ 85).