الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع سماع الموتى
هذه المسألة هي مما وقع فيها الاختلاف بين العلماء، إذ قال بعض العلماء بإثبات سماع الموتى، واستدلوا على ذلك بتكليم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتلى من المشركين الذين رموا في القليب يوم بدر، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"
(1)
، وبقوله صلى الله عليه وسلم عن الميت بعد دفنه:"إنه ليسمع قرع نعالهم"
(2)
وبأمثالهما من الأحاديث المثبتة لذلك.
قال الشنقيطي رحمه الله: "النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها"
(3)
. وقد ذهب إلى هذا القول عدد من العلماء منهم ابن عبد البر، وابن كثير، وابن القيم، وابن رجب وغيرهم
(4)
.
وذهب آخرون منهم عائشة رضي الله عنها إلى إنكار ذلك والاعتراض عليه بقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
(5)
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
(6)
.
والقرطبي رحمه الله أخذ بالقول الأول، وأثبت أنه لا تعارض
(1)
رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر ح 1370 (3/ 274)، ومسلم في كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه ح 932 (6/ 488).
(2)
سبق تخريجه ص (804).
(3)
أضواء البيان (6/ 129).
(4)
انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/ 685). وأضواء البيان للشنقيطي (6/ 124 - 142)، وأهوال القبور لابن رجب ص (86).
(5)
سورة النمل، الآية:80.
(6)
سورة فاطر، الآية:22.
بين الآيات والأحاديث في هذه المسألة، فقال بعد تقريره لسماع الموتى:"ولا يعارض هذا بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}، ولا بقوله {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نادى أهل القليب وأسمعهم، وقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابًا" وقال في الميت:"إنه ليسمع قرع نعالهم" وإن هذا يكون في حال دون حال ووقت دون وقت. وقال في الجمع بين هذه النصوص: إنكار عائشة على ابن عمر سماع أهل القليب إنكار لما رواه الثقة الحافظ لأجل أنها ظنت أن ذلك مُعَارَضٌ بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} وبقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ولا تعارض بينهما لوجهين:
أحدهما: أن الموتى في الآية إنما يراد بهم الكفار، فكأنهم موتى في قبورهم والسماع يراد به الفهم والإجابة هنا كما قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
(1)
وهذا كما سماهم صم وبكم وعمي مع سلامة هذه الحواس منهم.
وثانيهما: أنا لو سلمنا أن الموتى في الآية على حقيقتهم فلا تعارض بينها وبين أن بعض الموتى يسمعون في وقت ما أو في حال ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص وقد وجد هنا بدليل هذا الحديث
(2)
، وحديث أبي طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في أهل
(1)
سورة الأنفال، الآية:23.
(2)
وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قال فيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقالت عائشة رضي الله عنها: وَهَلَ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن". وذلك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال: "إنهم ليسمعون ما أقول" وقد وَهَلَ إنما قال: "إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} رواه مسلم في كتاب الجنائز باب الميت يعذب =
بدر: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وهو متفق عليه، وبما في معناه مثل قوله في الميت:"إنه ليسمع قرع النعال" وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره وجوابه لهما إلى غير ذلك مما لا ينكر، فحديث ابن عمر صحيح النقل، وما تضمنه يقبله العقل، فلا طريق لتخطئته والله تعالى أعلم"
(1)
.
وهذا القول هو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيرهم، وليس في القرآن ما ينفي ذلك، فإن قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
(2)
إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مثلٌ ضُرِبَ للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}
(3)
فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع السماع المعتاد أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلم ينف عنهم وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين، فهذا موافق لهذا، فكيف يدفع ذلك؟ "
(4)
.
وأما المازري فذهب إلى إنكار سماع الموتى، وجعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل القليب وإثباته لسماعهم إنما هو إحياء لهم ليسمعوا
= ببكاء أهله عليه ح 932 (66/ 488).
(1)
المفهم (2/ 585).
(2)
سورة النمل، الآية:80.
(3)
سورة البقرة، الآية:171.
(4)
الفتاوى (4/ 298).
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم توبيخًا لهم حيث قال عند شرح هذا الحديث: "ذهب بعض الناس إلى أن الميت يسمع أخذًا بظاهر هذا الحديث، والذي عليه المحصلون من العلماء أن الله تعالى خرق العادة. بأن أعاد الحياة إلى هؤلاء الموتى ليقرعهم؛ صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب قتادة، وقد ذكر الحديث لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم الحق" ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فأنت ترى عائشة كيف أنكرت ظاهر الحديث وحولته إلى لفظ آخر، والتشكك في سماع سائر الموتى وحسهم يخرم الثقة بالعلوم الضرورية"
(1)
. وقال في موضع آخر: "اغتر بعض الناس بحديث القليب، فقال: إن الميت يسمع، وهذا غير صحيح عند أهل الأصول؛ لأن الحياة شرط في السمع فلا يسمع غير حي، وحمل بعض الناس ذلك على أنهم أعيدت لهم الحياة حتى سمعوا تقريعه عليه السلام لهم"
(2)
.
(1)
المعلم (3/ 207).
(2)
المعلم (1/ 324).