الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأقدار، ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه، وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشعب، فالتغير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابًا، ولمحوها أسبابًا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببًا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببًا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببًا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ"
(1)
.
وقد رجَّح هذا القول أيضًا الحافظ ابن حجر حيث قال: "المحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق"
(2)
.
وقال به السفاريني في لوامع الأنوار
(3)
. وهو مفهوم كثير من العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة.
المطلب الثالث: القضاء والقدر وفعل الأسباب:
إن الإيمان بالقضاء والقدر، واعتقاد أن الأمور جميعها تسير وفق
(1)
تفسير السعدي ص (445).
(2)
فتح الباري (10/ 43).
(3)
لوامع الأنوار للسفاريني (1/ 349).
ما سبق فيه القضاء، وجرت به المقادير، لا يقتضي من العبد ترك العمل -المفضي إلى الخمول والدعة والبطالة- اتكالًا على ذلك، بل هذا ينافي حقيقة التوكل. فلابد مع التوكل على الله من مباشرة الأسباب المأمور بها شرعًا وعقلًا وفطرة. وقد اقتضت حكمة الله تعالى تعلق الأشياء بمسبباتها وارتباطها بها، وبناءها عليها.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول السرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب
…
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة مصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال"
(1)
.
وقد قال بعض العلماء كلامًا سديدًا في هذه المسألة، وهو قوله:"الالتفات إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا، نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية، قدحٌ في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لابد من ريح مربية بإذن الله، ولابد من صرف الانتفاء عنه، فلابد من تمام الشروط، وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره"
(2)
.
وهذا ما قرره القرطبي فقال: "استعمل الحرص والاجتهاد في
(1)
الجواب الكافي ص (9، 10).
(2)
الفتاوى لابن تيمية (8/ 70).
تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك ومكارم أخلاقك، ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متكلًا على القدر، فتنسب للتقصير، وتُلام على التفريط شرعًا وعادة، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته وإبلاغ الحرص غايته، فلابد من الاستعانة بالله والتوكل عليه، والالتجاء في كل الأمور إليه، فمن سلك هذين الطريقين حصل على خير الدارين"
(1)
.
وردَّ على الذين يتركون العمل احتجاجًا بالقدر، فقال:"وقوله: "أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل"؟ وفي الرواية الأخرى: "أفلا نتَّكل على كتابنا؟ "
(2)
حاصل هذا السؤال أنه إذا وجبت السعادة والشقاوة، بالقضاء الأزلي، والقدر الإلهي، فلا فائدة للتكليف ولا حاجة بنا إلى العمل، فنتركه، وهذه أعظم شبه النافين للقدر، وقد أجابهم صلى الله عليه وسلم بما لا يبقى معه إشكال فقال:"اعملوا فكلٌّ مُيسَّر لما خُلِقَ له" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}
(3)
ووجه الانفصال: أن الله تعالى أمرنا بالعمل فلابد من امتثال أمره، وغيَّب عنَّا المقادير لقيام حجته وزجره، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته وحكمته وعزه"
(4)
.
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين، لم يكن ليترك الأسباب، مع توكله على الله، بل كانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم تدل على أن فعل الأسباب من التوكل على الله.
(1)
المفهم (6/ 682).
(2)
رواه البخاري في كتاب التفسير سورة الليل: باب {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} ح (4947)(8/ 579)، ومسلم في كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ح (2647)(16/ 434).
(3)
سورة الليل، الآيتان: 5، 6.
(4)
المفهم (6/ 658).
وهذا أمرٌ معلوم لا يحتاج إلى بيان، فقد شارك صلى الله عليه وسلم أصحابه في حفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب عملًا بالأسباب، وقد ردَّ القرطبي على جهلة الصوفية -الذين يجعلون الأخذ بالأسباب من قوادح التوكل- عند شرحه لهذا الحديث فقال:"وغير خَافٍ ما في هذا الحديث من الفقه، من جواز التحصن والاحتراز من المكروهات، والأخذ بالحزم، والعمل في العادات بمقتضاها، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل، ولا منقص فيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على كمال المعرفة بالله تعالى، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، ومع ذلك لم يطرح الأسباب، ولا مقتضى العادات، على ما يراه جهال المتزهدين أهل الدعاوي الممخرقين"
(1)
.
ومن اتخاذ الأسباب التي أمر بها تعالى: الدعاء، كما قال سبحانه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}
(2)
، وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}
(3)
، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(4)
.
"فإن قالوا إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله عز وجل به وأرشدنا إليه، وجعل تركه استكبارًا وتوعَّد عليه بدخول النار، مع الذل، وأنكر عليهم أن غيره يجيب المضطر، إن كان ذلك كله لا فائدة فيه للعبد، فقد نسب إلى الرب عز وجل ما لا يجوز عليه، ولا تحل نسبته إليه بإجماع المسلمين، فإنه عز وجل لا يأمر إلَّا بما فيه فائدة للعبد، دنيوية وأخروية،
(1)
المفهم (3/ 645) وانظر أيضًا (3/ 493).
(2)
سورة غافر، الآية:60.
(3)
سورة النمل، الآية:62.
(4)
سورة البقرة، الآية:186.
إما جلب نفع أو دفع ضر"
(1)
.
لكن المعتزلة قالوا: لا فائدة في الدعاء، مع سابق القدر، وغلاة الصوفية قالوا: إن الدعاء قادح في التوكل. وهذا كلامٌ باطلٌ، مردود على أصحابه بالشرع والعقل إذ الدعاء من الأسباب التي جعلها الله موصلة للمراد.
قال ابن تيمية: الدعاء في اقتضائه الإجابة، كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال: إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليست بسبب أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودًا ولا عدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه، فهما قولان ضعيفان، فإن الله علَّق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب، كقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(2)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلَّا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يدَّخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا: يا رسول الله إذًا نُكثر، قال: الله أكثر"
(3)
فعلَّق العطايا بالدعاء، تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به"
(4)
.
(1)
انظر: قطر الولي على حديث الولي للشوكاني ص (512).
(2)
سورة غافر، الآية:60.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 18)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في انتظار الفرج وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا صحيح الاسناد إلَّا أن الشيخين لم يخرجاه (1/ 985)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 985)، برقم (5637).
(4)
الفتاوى (8/ 192).