الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أول واجب على المكلف والرد على المتكلمين
لقد سلك كثير من المتكلمين في معرفة الله تعالى والاستدلال على وجوده طرقًا ملتوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لهم في ذلك دليل من كتاب أو سنة، أو فهم سلف الأمة. وقد ترتب على ما ذهبوا إليه من المفاسد ما لا يحصى كثرةً، وقولهم هذا راجع إلى اعتقادهم بأن معرفة الله تعالى نظرية وليست فطرية، أي لا يوجد في القلوب معرفة للخالق سبحانه قبل النظر، لذا اعتبروه أول الواجبات على العبد. قال الباقلاني:"أول ما فرض الله عز وجل على العباد النظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته، لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مُشاهد بالحواس، إنما يُعْلَم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله، بالأدلة الظاهرة والبراهين الباهرة"
(1)
.
وقال الجويني: "أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحُلم شرعًا القصد إلى النظر الصحيح"
(2)
.
وقد ذكر الباجوري
(3)
الأقوال في أول واجب على المكلف، ثم قال بعد ذلك في محاولة للجمع بينها: "الأصح أن أول واجب قصدًا: المعرفة، وأول واجب وسيلة قريبةً: النظر. ووسيلة بعيدة: القصد إلى
(1)
الإنصاف للباقلاني ص (22).
(2)
الإرشاد للجويني ص (25).
(3)
إبراهيم بن محمد الباجوري أو البيجوري الشافعي الأشعري شيخ الأزهر في زمنه توفي سنة (1277 هـ). معجم المؤلفين (1/ 57)، هدية العارفين (5/ 41).
النظر وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة"
(1)
.
وهذا القول هو الذي عليه عامة الأشاعرة، وقد أخذوه عن المعتزلة. قال أبو جعفر السمناني
(2)
: "إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك"
(3)
.
ويترتب على قولهم هذا إخراج لعامة المسلمين من الإسلام، بل تكفير لسلف الأمة وَخَلَفِها، وقد بيَّنوا أن هذه الطريقة لا يعرفها كل أحد، فجعلوا الإيمان بالله والدخول في دينه لا يستطيعه إلَّا من رسخ في العلم بزعمهم. ولهذا لما عدَّد شارح "الجوهرة" المطالب السبعة التي يتوصل بها إلى إثبات وجود الله تعالى قال:"وهذه المطالب لا يعرفها إلَّا الراسخون في العلم" ثم قال: "قال السنوسي
(4)
: وبها ينجو المكلف من أبواب جهنم السبعة"
(5)
.
فانظر كيف جعل السنوسي عاقبة ترك هذه المطالب على المكلف سواء كان من العوام أو من العلماء الراسخين في العلم، وانظر كيف اعترف الباجوري بأنه لا يعلمها إلَّا الراسخون في العلم، فيكونون على هذا هم الناجين فقط دون من سواهم، ويكون العوام وهم أكثر المسلمين ليسوا بناجين من النار، بل حتى العلماء الذين ليسوا براسخين في العلم،
(1)
تحفة المريد على جوهرة التوحيد للباجوري ص (38).
(2)
هو محمد بن أحمد بن محمد السمناني القاضي الحنفي أحد المتكلمين لازم القاضي أبا بكر الباقلاني حتى برز في علم الكلام، كان حامل لواء الأشعرية في زمنه توفي سنة (444 هـ).
سير أعلام النبلاء (17/ 651)، البداية والنهاية (12/ 68).
(3)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 361).
(4)
محمد بن يوسف السنوسي سبقت ترجمته ص (69).
(5)
تحفة المريد للباجوري ص (42).
وهذا تحجير لواسع، وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه"
(1)
.
ولا شك أن في الكتاب والسنة تعريفًا للناس بخالقهم بطرق سهلة ميسرة لا تخفى على أحد، ولا تحتاج لرسوخ في العلم، ودقةٍ في النظر، مع ما في فِطَرِ الناس من معرفة لله تعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر الناس بالفظر أو طلب منهم ذلك، أو سأل من دخل في الإسلام عنه، إنما كانت الدعوة إلى الشهادتين فمن فعل ذلك دخل في الإسلام وحكم له به.
قال ابن تيمية: "والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدًا من الخلق إلى النظر ابتداءً ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه
(2)
.
وقال ابن حزم: "وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقادًا، لا يشك فيه، وقال بلسانه: لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك"
(3)
.
وقال أبو المظفر السمعاني
(4)
: "إنما أنكرنا طريقة أهل الكلام على ما أسسوا فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري. وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين ولو
(1)
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله الخالق، عبد اللطيف محمد نور (1/ 316).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (8/ 6).
(3)
الفصل في الملل والنحل (4/ 29).
(4)
هو منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني مفسر أُصولي متكلم، له عدة مصنفات منها:"منهاج أهل السنة" توفي سنة (489 هـ). طبقات المفسرين للأدنه وي ص (145)، البداية والنهاية (12/ 164).
أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك من التابعين بعدهم"
(1)
.
والرد على هؤلاء من وجهين:
أولًا: أن معرفة الله تعالى ليست نظرية، بل فطرية، وسيأتي بيان ذلك.
ثانيًا: أن أول الواجبات على العبد النطق بالشهادتين، كما جاءت بذلك النصوص من الكتاب والسنة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
(2)
(3)
.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسُولُ الله
…
"
(4)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدُوا أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسُولُ الله
…
"
(5)
.
وهذا متفق عليه بين السلف، كما تبين من النصوص السابقة. والقرطبي رحمه الله نصر قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة،
(1)
الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (2/ 120).
(2)
سورة النحل، الآية:36.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:25.
(4)
رواه البخاري كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ح (7372)(13/ 359). ومسلم في كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام ح (19)(1/ 310).
(5)
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب قتال الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ح (22)(1/ 325).
وخالف الأشاعرة ومن وافقهم في قولهم هذا، حيث قال بعد ذكره لأركان الإيمان: مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف، أن من صدق بهذه الأمور تصديقًا جزمًا لا ريب فيه، ولا تردد ولا توقف كان مؤمنًا حقيقة وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة، أو عن اعتقادات جازمة.
على هذا انقرضت الأعصار الكريمة، وبهذا صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة، فقالوا: إنه لا يصح الإيمان الشرعي، إلَّا بعد الإحاطة بالبراهين العقلية والسمعية وحصول العلم بنتائجها ومطالبها ومن لم يحصل إيمانه كذلك، فليس بمؤمن ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك وتبعهم على ذلك جماعة من متكلمي أصحابنا كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأبي المعالي في أول قوليه، والأول هو الصحيح، إذ المطلوب من المكلفين ما يقال عليه: إيمان كقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
(1)
، {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
(2)
.
والإيمان: هو التصديق لغة وشرعًا، فمن صدق بذلك كله ولم يجوز نقيض شيء من ذلك، فقد عمل بمقتضى ما أمره الله به، على نحو ما أمره الله تعالى ومن كان كذلك فقد تقصَّى عن عهدة الخطاب، إذ قد عمل بمقتضى السنَّة والكتاب، ولأنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده حكمُوا بصحَّة إيمان كلّ من آمن وصدق بما ذكرناه، ولم يفرقوا بين من آمن عن برهان، أو عن غيره، ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر ولا سألوهم عن أدلَّة تصديقهم، ولا أرجؤوا إيمانهم حتى ينظروا وتحاشوا
(1)
سورة النساء، آية:136.
(2)
سورة الفتح، آية:13.
عن إطلاق الكفر على أحد منهم، بل سموهم المؤمنين والمسلمين، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام؛ ولأن البراهين التي حررها المتكلمون ورتبها الجدليون إنما أحدثها المتأخرون ولم يخض في شيء من تلك الأساليب السلف الماضون فمن المحال والهذيان أن يشترط في صحة الإيمان ما لم يكن معروفًا ولا معمولًا به لأهل ذلك الزمان، وهم من هم فهمًا عن الله وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغًا لشريعته وبيانًا لسُنَّته وطريقته"
(1)
.
وبيَّن في موضعٍ آخر فساد ما ذهبوا إليه، وخطورة ما يترتب عليه، فقال: "ولو لم يكن في الكلام شيءٌ يُذَمُّ به إلَّا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذم، وجديرًا بالترك.
إحداهما: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى.
والثانية: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها، والأبحاث التي حرروها فلا يصح إيمانه وهو كافر.
فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره أباه وأسلافه، وجيرانه، وقد أُورد على بعضهم هذا فقال: لا يُشَنَّع علي بكثرة أهل النار
…
ومن شك في تكفير من قال: إن الشك في الله تعالى واجب، وأن معظم الصحابة والمسلمين كفار، فهو كافر شرعًا، أو مختل العقل، وضعًا إذ كل واحدة منها معلومة الفساد بالضرورة الشرعية، الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعية، وإن لم يكن كذلك، فلا ضروري يصار إليه في الشرعيات ولا العقليات"
(2)
.
ولا شك أن من ذهب إلى هذا القول ليس له حجة في ذلك، وما
(1)
المفهم (1/ 145).
(2)
المفهم (6/ 693).
تمسكوا به في حديث معاذ لا يسلم لهم، بل هو حجة عليهم، وقد بيَّن القرطبي هذا فقال:"قوله: "فإذا عرفوا الله فأخبرهم". أي: إن أطاعوا بالنطق بذلك أي: بكلمتي التوحيد كما قال في الرواية الأخرى: "فإن هم أطاعوا بذلك فأعلمهم" فسمى الطواعية بذلك والنطق به: معرفة؛ لأنه لا يكون غالبًا إلَّا عن المعرفة، وهذا الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم به معاذًا هو الدعوة قبل القتال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بها أمراءه، وقد اختلف في حكمها على ما يأتي في الجهاد، وعلى هذا فلا يكون في حديث معاذ حجة لمن تمسك به من المتكلمين، على أن أول واجب على كل مكلف معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان، بل هو حجة لمن يقول: إن أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقًا بها"
(1)
.
قال الشوكاني
(2)
رحمه الله رادًّا على المتكلمين في قولهم في هذه المسألة، مبينًا ما يترتب عليها من النتائج الفاسدة:"فيا لله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود، وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها، الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك، ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته"
(3)
.
(1)
المفهم (1/ 181).
(2)
محمد بن علي الشوكاني الإمام العالم المجتهد أكثر من التصنيف منها: "فتح القدير" في التفسير، "نيل الأوطار" في فقه الحديث، وغيرها كثير توفي سنة (1250 هـ). معجم المؤلفين (3/ 541)، الأعلام (6/ 298).
(3)
إرشاد الفحول ص (393).