الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاهدة بصدقه، وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها، ولا كان رسولًا مفضلًا من أجلها، وهو في كثير منها عرضة لما يعترض البشر فغير بعيد أن يخيل إليه في أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قال بعض الناس إنما المراد بالحديث: أنه يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل في المنام للإنسان مثل هذا المعنى، ولا حقيقة له، فلا يبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم يتخيله في اليقظة، وإن لم يكن حقيقة، وقال بعض أصحابنا: يمكن أن يكون يخيل إليه الشيء أنه فعله وما فعله، ولكنه لا يعتقد ما تخيله أنه صحيح فتكون اعتقاداته كلها على السداد فلا يبقى لاعتراض الملحدة طريق"
(1)
.
وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام المازري السابق في كتابه "فتح الباري" وارتضاه
(2)
.
حكم الساحر:
اختلف العلماء في حد الساحر: هل يقتل بمجرد السحر؟ أم لابد أن يتضمن سحره الكفر، أو يقتل بسحره؟ .
ذهب الإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد (في رواية عنه) أنه يقتل على كل حال
(3)
. وأما الشافعي فقال: الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر يقتل، فإذا عمل عملًا دون الكفر لم نر عليه قتلًا
(4)
. وهو رواية عن أحمد
(5)
.
(1)
المعلم (3/ 93).
(2)
فتح الباري (10/ 237).
(3)
انظر: المغني لابن قدامة (10/ 111)، وتيسير العزيز الحميد ص (391).
(4)
فتح الباري (10/ 247).
(5)
انظر: المغني (10/ 111)، وتيسير العزيز الحميد ص (391).
فالخلاف إذًا في الساحر الذي لم يشتمل سحره على الكفر، ولم يقتل بسحره. وأما إذا قتل بسحره، أو اشتمل سحره على الكفر فحده القتل عند الجميع. على أن كثيرًا من العلماء يرى أن الساحر لا يتم له السحر إلَّا بخدمة الشياطين له، وهم لا يخدمونه إلَّا بالتقرب إليهم، وهذا كفر. ثم هل تقبل توبة الساحر أم لا؟ في المسألة خلاف أيضًا:
والقرطبي والمازري أخذا بمذهب المالكية في ذلك، وهو قتل الساحر على كل حال.
قال القرطبي: "الساحر عند مالك كالزنديق؛ لأن العمل عنده بالسحر كفر مستسر به، فلا تقبل توبة الساحر، كما لا تقبل توبة الزنديق، إذ لا طريق لنا إلى معرفة صدق توبته
…
وإنما صار مالك إلى أن السحر كفر لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}
(1)
أي بالسحر، ويتأيد ذلك بأن الساحر لا يتم له سحره حتى يعتقد أن سحره ذلك مؤثر بذاته وحقيقته، وذلك كفر.
وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين والشافعي في قول له آخر
(2)
. فالساحر عندنا يقتل على كل حال قتل بسحره أم لا؛ لأنه كالزنديق
(3)
.
وقال المازري: "الساحر عندنا إذا سحر بنفسه قتل، فإن تاب لم تقبل توبته خلافًا للشافعي، وهذه المسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق؛ لأنه مسرٌّ لما يوجب قتله كالساحر. وإنما قلنا "أنه يقتل
(1)
سورة البقرة، الآية:102.
(2)
المفهم (5/ 574).
(3)
المفهم (5/ 568).
على الجملة؛ لأن من عمل السحر وعلمه فقد كفر، والكافر يقتل، قال تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}
(1)
فإذا ثبت كونه كفرًا وجب القتل به. قال بعض أصحابنا، وقد قال الله تعالى:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} يعني باعوها وبيعه لنفسه يتضمن قتله.
قال الشافعي: "إن عمل السحر (وقال به)
(2)
سئل فإن قال تعمدت القتل به قُتِلَ، وإن قال لم أتعمد القتل به كانت فيه الدية. وإذا ثبت أنه كافر استغني عن هذا التفصيل الذي قاله الشافعي"
(3)
.
لكن إن اعترض على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره، فقد أجاب القرطبي عن هذا الاعتراض فقال:"إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لما نبَّه عليه من خوف وقوع شر بين المسلمين واليهود، لما كان بينهم من العهد والذمة، فلو قتله لثارت فتنة، ولتحدث الناس أن محمدًا يقتل من عاهده وأمَّنه، وهذا نحو مما راعاه في الامتناع عن قتل المنافقين حيث قال: "لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"
(4)
فيكون ذلك منفرًا عن الدخول في دينه وفي عهده والله تعالى أعلم"
(5)
.
(1)
سورة البقرة، الآية:102.
(2)
هكذا في الأصل ولعلها "وَقتَلَ به".
(3)
المعلم (3/ 93).
(4)
سبق تخريجه ص (297).
(5)
المفهم (5/ 574) وقد ذهب الشنقيطي رحمه الله إلى هذا فقال: بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة فدل على أنه لولا ذلك لقتله وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه فيكون ذلك تنفيرًا عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق والله أعلم. أضواء البيان (4/ 62).