الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف ولا ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليها اعتيادًا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة. وممن قال بهذا أبو حامد الغزالي
(1)
.
وقيل: كل ذنب كبر وعظم عظمًا، يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة، وَوصفَ بكونه عظيمًا على الإطلاق. وقاله ابن الصلاح
(2)
.
وقد ذكر القرطبي تعريفًا جيدًا لها إذ قال: "كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم، أو أخبر فيه بشدة العقاب، أو علق عليه الحد، أو شدد عليه النكير، فهو كبيرة. وهذا الكلام في غير ما قد ورد بالنص الصريح فيه أنه كبيرة من الكبائر أو أكبر الكبائر"
(3)
.
وقد اختار هذا التعريف الحافظ ابن حجر، وارتضاه، فقال:"ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم"
(4)
ثم ساق التعريف السابق.
المطلب الثالث: حكم مرتكب الكبيرة:
أجمع أهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة الغير مستحل لها لا يكفر بذلك، بل ينقص إيمانه ولا يذهب بالكلية، بل يقولون مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
والنصوص من الكتاب والسنة قد تضافرت على ذلك.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
(5)
.
(1)
شرح مسلم للنووي (2/ 444).
(2)
المرجع السابق (2/ 445).
(3)
المفهم (1/ 283).
(4)
فتح الباري (12/ 19).
(5)
سورة النساء، الآية:48.
قال ابن جرير: "وقد أبانت الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركًا بالله"
(1)
.
(2)
.
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(3)
.
قال السعدي
(4)
: "الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر التي دون الشرك وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة"
(5)
.
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تُشْركوِا بالله شيئًا، ولا تسْرِقوا ولا تَزْنُوا ولا تَقْتلُوا أولادَكُم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونهُ بين أيديكم وأرجُلِكُم ولا تعصُوا في معرُوف، فمنْ وفَّى منكُم فأجْرُهُ على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِب في الدنيا فهو كفَّارةٌ له، وإن أصابَ من ذلك شيئًا ثم سَتَرَهُ الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنهُ وإن شاء
(1)
تفسير الطبري (4/ 129).
(2)
سورة البقرة، الآية:178.
(3)
سورة الحجرات الآية: 9.
(4)
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي أحد أعلام القرن الرابع عشر الهجري، له "تفسير القرآن""والقول السديد في مقاصد التوحيد" وغيرها من المصنفات التي زادت على أربعين مصنفًا توفي في عنيزة بالقصيم سنة (376 اهـ) معجم المؤلفين (1/ 122)، الأعلام (3/ 340).
(5)
تفسير السعدي ص (879).
عاقبهُ" فبايعناه على ذلك
(1)
.
وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثُمَّ مات على ذلك إلا دخل الجنة قلتُ: وإن زَنَى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرَق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنْفِ أبي ذرٍّ"
(2)
.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهذا هو الذي عليه جماهير العلماء خلافًا للمبتدعة من الخوارج الذين قالوا بكفر مرتكب الكبيرة والمعتزلة الذين جعلوه في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين، فليس بمؤمن ولا كافر، وفي الآخرة خالد مخلد في جهنم، والمرجئة الخالصة الذين قالوا لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
قال الطحاوي
(3)
: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"
(4)
.
وقال الإمام أحمد: "والكف عن أهل القبلة ولا تكفر أحد منهم
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب بايعوا على أن لا تشركوا بالله شيئًا ح / 18 (1/ 81).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ح (1237)، (3/ 132) واللفظ من كتاب اللباس باب الثياب البيض ح (5827)، (29410) ومسلم في كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ح (92)، (2/ 452).
(3)
أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي أبو جعفر إمام حافظ، له عدة مصنفات، منها:"معاني الآثار"، وشرح مشكل الآثار" وغيرها. توفي سنة (322 هـ). سير أعلام النبلاء (15/ 27)، طبقات الحفاظ ص (355)، ترجمة (768).
(4)
الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز (2/ 432).
بذنب ولا تخرجه من الإسلام"
(1)
.
وقد بوَّب البخاري في صحيحه بقوله: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلَّا بالشرك"
(2)
.
وقال أبو عثمان الصابوني
(3)
مقررًا عقيدة السلف: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرة، صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة
…
وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار وإذا عذبه لم يخلد فيها"
(4)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيانه لمذهب أهل السنة: "وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر
…
ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار
…
ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته"
(5)
.
وقد نهج القرطبي منهج أهل السنة في هذه المسألة فقرر ما ذهبوا إليه من عدم تكفير مرتكب الكبيرة فعند شرحه لحديث: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"
(6)
. قال: "من المعلوم من الشرع المجمع عليه من أهل السنة أن من مات على ذلك فلابد له من دخول الجنة، وإن
(1)
السنة للإمام أحمد ص (72).
(2)
صحيح البخاري، كتاب الإيمان فتح الباري (1/ 106).
(3)
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني، إمام في الحديث، متبع للسنة، واعظ مفسر، من العلماء العبَّاد الزُّهَّاد، توفي سنة (447 هـ). طبقات المفسرين للأدنة وي ص (118)، تاريخ دمشق (9/ 3).
(4)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص (276).
(5)
العقيدة الواسطية ضمن الفتاوى (3/ 151).
(6)
رواه مسلم في كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ح (93، 2/ 453).
جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة
…
وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه من المسلمين"
(1)
.
وقال أيضًا: "من لقي الله تعالى مرتكب كبيرة ولم يتب منها فهو في مشيئة الله تعالى التي دل عليها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(2)
.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الصحيحة المفيدة بكثرتها حصول العلم القطعي أن طائفة كثيرة من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بالتفضل المعبر عنه بالقبضة في الحديث الصحيح
(3)
أو بما شاء الله"
(4)
.
وقال: "مذهب أهل الحق أن لا يكفر أحد من المسلمين بارتكاب كبيرة ما عدا الشرك"
(5)
.
وقد ردَّ على المكفرة بالذنوب من المعتزلة والخوارج وبين تخريج الأحاديث التي تدل بظاهرها على ما ذهبوا إليه فقال في شرحه لحديث أبي هريرة: "ولا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن"
(6)
: "ظاهر هذا الحديث حجة للخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن يخرج من الإيمان بارتكاب الكبائر غير أن أهل السنة يعارضونهم بظواهر أولى منها كقوله عليه الصلاة
(1)
المفهم (1/ 290).
(2)
سورة النساء، الآية:48.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية ح (183، 3/ 30).
(4)
المفهم (1/ 199).
(5)
المفهم (1/ 300).
(6)
رواه البخاري في كتاب الأشربة باب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} ح/ 5578 (10/ 33)، ومسلم في كتاب الإيمان باب نقصان الإيمان بالمعاصي ح (57، 2/ 401).
والسلام في حديث أبي ذر: "من مات لا يشركُ بالله شيئًا دخل الجنة وإن زنى وإن سرَقَ"
(1)
وكقوله في حديث عبادة بن الصامت: "ومن أصاب شيئًا من -ذلك يعني من القتل والسرق والزنى- فعوقب فهو كفارة له، ومن لم يعاقب فأمره إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عذبه"
(2)
ويعضد هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(3)
.
ونحو هذا في الأحاديث كثيرة، ولما صحت هذه المعارضة تعين تأويل تلك الأحاديث الأول وما في معناها وقد اختلف العلماء في ذلك فقال حبر القرآن عبد الله بن عباس: إن ذلك محمول على المستحل لتلك الكبائر وقيل معنى ذلك: إن مرتكب تلك الكبائر يسلب عنه اسم الإيمان الكامل أو النافع الذي يفيد صاحبه الانزجار عن هذه الكبائر وقال الحسن: يسلب عنه اسم المدح الذي سمي به أولياء الله المؤمنون ويستحق اسم الذم الذي سمي به المنافقون والفاسقون
…
وكل هذه التأويلات حسنة والحديث قابل لها وتأويل ابن عباس هذا أحسنها"
(4)
.
ولا شك أن حديث عبادة بن الصامت صريح في رد مذهب المكفرة بالذنوب، وقد قال عند شرحه:"وهذا تصريح بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر؛ لأن الكفر لا يغفر لمن مات عليه بالنص والإجماع، وهو حجة لأهل السُّنَّة على المكفرة للذُّنوب وهم الخوارج وأهل البدعة"
(5)
.
(1)
سبق تخريجه ص (171).
(2)
سبق تخريجه ص (171).
(3)
سورة النساء، الآية:48.
(4)
المفهم (1/ 247).
(5)
المفهم (5/ 142).
وكذلك حديث الشفاعة أيضًا، حيث قال فيه:"وهذا الحديث ردٌّ على الخوارج والمعتزلة حيث حكمُوا بخلود أهل الكبائر في النار وأنهم لا يخرجون منها أبدًا"
(1)
.
وحمل جميع ما يرد من هذه الأحاديث الدالة بظاهرها على تكفير أهل الكبائر على هذه المحامل مع تخريج كل حديث بما يناسب سياقه، وقد قال عند شرحه لحديث:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"
(2)
بعد أن بين مفهوم الحديث على ضوء معتقد أهل السنة والجماعة قال: "وعلى هذا القانون ينبغي أن يحمل ما في هذا الباب مما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إن فاعله لا يدخل الجنة مما ليس بشرك للأدلة المتقدمة ولما يأتي في أحاديث الشفاعة"
(3)
.
والمازري أيضًا وافق أهل السنة بقولهم هذا ورد على الخوارج والمعتزلة والمرجئة فيما ذهبوا إليه، وإن كان نسب هذا القول إلى الأشعرية، فقال عند شرحه لحديث:"من مات وهو يعلمُ أنَّهُ لا إله إلَّا الله دخل الجنة"
(4)
: "اختلف الناس فيمن عصى من أهل الشهادتين فقالت المرجئة: "لا تضره المعصية مع الإيمان، وقالت الخوارج: تضره المعصية ويكفر بها، وقالت المعتزلة يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر ولكن يوصف بأنه فاسق. وقالت
(1)
المفهم (1/ 452).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب تحريم إيذاء الجارح (46)(2/ 376).
(3)
المفهم (1/ 228) وانظر على سبيل المثال (1/ 199، 201 ، 228، 245، 247، 254، 256، 257، 289، 299، 310، 347، 354، 3/ 725، 40/ 60، 6/ 527، 607).
(4)
رواه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أنَّ من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا ح / 26 (1/ 331).
الأشعرية: بل هو مؤمن وإن لم يغفر له وعذب، فلابد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة. وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره على صحة ما قالت به قلنا: محمله على أنه غُفِرَ له وأُخرِجَ من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة فيكون المعنى في قوله: "دخل الجنة" أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب وهذا لابد من تأويله لما جاءت به ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة، فلابد من تأويل هذا الحديث على ما قلناه لئلا تتناقض ظواهر الشرع"
(1)
.
وبين في شرحه لمثل هذه الأحاديث أنها لا تحمل على ظاهرها بمعزل عن الأحاديث الأخرى المبينة لها دفعًا لمذهب الخوارج فقال عند شرحه لحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
(2)
: "قيل معنى مؤمن أي آمن من عذاب الله ويحتمل أن يحمل على أن معناه: أن يكون مستحلًا لذلك، وقد قيل: معناه أي كامل الإيمان، وهذا على قول من يرى أن الطاعات تسمى إيمانًا. وهذه التأويلات تدفع قول الخوارج أنه كافر بزناه، وقول المعتزلة أن الفاسق الملّيّ لا يسمى مؤمنًا تعلقًا من الطائفتين بهذا الحديث، وإذا احتمل ما قلناه لم تكن لهم فيه حجة"
(3)
.
(1)
المعلم (1/ 194).
(2)
سبق تخريجه ص (173).
(3)
المعلم (1/ 197) وانظر أيضًا (1/ 198، 199، 200).