الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقَدَرُ: القضاءُ والحُكم وهو ما يُقَدِّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور، قال الله عز وجل:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}
(1)
أي الحكم
…
وفي الحديث ذكر ليلة القدر، وهي الليلة التي تقدر فيها الأرزاق"
(2)
.
والقَدَر والقَدْر بسكون الدال وفتحها، قال صاحب اللسان:"قال اللحياني: القَدَرُ الاسم والقَدْرُ المصدر"
(3)
.
قال القرطبي: القَدَر: مصدر قَدَرْتُ الشيءَ خفيفة الدال أَقْدِرُه وأَقْدُرُه قَدْرًا وقَدَرًا إذا أحطْتَ بمقداره ويقال فيه: قدَّرْتُ أُقدِّرُ تقديرًا مشدّد الدال للتضعيف"
(4)
.
"وهناك تلازم بين القضاء والقدر بحيث إن أحدهما لا ينفك عن الآخر"
(5)
.
قال الخطابي: "وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينها، فقد رام هدم البناء ونقضه"
(6)
.
(ب) تعريفه شرعًا:
اختلفت عبارات السلف في تعريف القدر، وهي تدل على تقدير
= الأعظم" و "شواذ اللغة" وغيرها توفي سنة (458 هـ) سير أعلام النبلاء (18/ 144)، الديباج المذهب ص (299).
(1)
سورة القدر، الآية:1.
(2)
لسان العرب (5/ 74).
(3)
لسان العرب (5/ 74).
(4)
المفهم (1/ 132).
(5)
انظر القضاء والقدر لعبد الرحمن المحمود ص (44).
(6)
معالم السنن (4/ 297).
الله تعالى للأشياء في القدم وعلمه سبحانه بوقوعها في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة.
وكتابة ذلك ومشيئته لها، ووقوعها على حسب ما قدرها تعالى.
قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله على العباد"
(1)
.
وقال النووي: "واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أنه الله تبارك وتعالى قدَّر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى"
(2)
.
وقال السفاريني
(3)
: "القدر عند السلف ما سبق به العلم، وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد، وأن الله عز وجل قدَّر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها"
(4)
.
وهكذا عرفه القرطبي رحمه الله إذ قال: فإذا قلنا: إن الله تعالى قدر الأشياء، فمعناه أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل
(1)
مسائل ابن هانيء (2/ 155). وقال ابن القيم عن قول أحمد: واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبصره في معرفة أصول الدين وهو كما قال أبو الوفاء فإنَّ إنكار القدر إنكار لقدرة الرب الذي خلق أعمال العباد، وكتابتها وتقديرها. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/ 130).
(2)
شرح مسلم للنووي (1/ 269).
(3)
محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي محدث فقيه مكثر من التصنيف له "الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" و"البحور الزاخرة في علوم الآخرة". وغيرها توفي سنة (1188 هـ). سلك الدرر (4/ 47)، معجم المؤلفين (3/ 65).
(4)
لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 348).
إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلَّا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين، والذي دلَّت عليه البراهين"
(1)
.
والإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان، كما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سأل جبريل عليه السلام الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"
(2)
.
والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة، منها:
- قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}
(3)
أي: جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه، وهو الرحم مؤخر إلى مقدار معلوم قد علمه الله، وحكم به، فقدرنا ذلك تقديرًا، فنعم المقدرون له نحن، أو فقدرنا على ذلك، فنعم القادرون عليه نحن، والأول أحق
(4)
.
- وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(5)
.
قال ابن كثير: "أي قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية الكريمة وما
(1)
المفهم (1/ 132).
(2)
سبق تخريجه ص (137).
(3)
سورة المرسلات، الآية: 21 - 23.
(4)
تفسير النسفي (2/ 763).
(5)
سورة القمر، الآية:49.
شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتة على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عهد الصحابة"
(1)
.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر، خيره وشره من الله، وحتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه"
(2)
.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيءٍ بقدرٍ، حتَّى العَجْزُ والكَيْسُ"
(3)
.
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(4)
"
(5)
.
قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: "خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر بقدر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاء"
(6)
.
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على علم الله سبحانه وتعالى وتقديره لأعمال الخلائق وآجالهم، والسعيد منهم والشقي، قبل خلقهم، فهو سبحانه العالم بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 286).
(2)
رواه الترمذي في كتاب القدر باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره وقال "حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث". قال الألباني بعد ذكره لقول الترمذي السابق: لكن الحديث صحيح فإنه جاء مفرقًا في أحاديث ثم ساقها. سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 566) حديث (2439).
(3)
رواه مسلم في كتاب القدر باب كل شيء بقدر ح (2655)(16/ 444).
(4)
سورة القمر، الآية: 48، 49.
(5)
رواه مسلم في كتاب القدر باب كل شيء بقدر ح (2656)(16/ 444).
(6)
تفسير الطبري (11/ 569).
كيف يكون.
وعلم الله سبحانه وتعالى كما قال السلف "سابق لا سائق" بمعنى: أنه علم تعالى ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، ومنحهم سبحانه القدرة على سلوك طريق الخير أو الشر، وعلم من يسلك طريق الخير، فيهتدي فيسعد، ومن يسلك طريق الشر فيضل فيشقى.
وقد بيَّن العلماء مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فقال الطحاوي: "خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقدارًا، وضرب لهم آجالًا، لم يَخْف عليه شيءٌ قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وجمل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لامشيئة للعباد إلَّا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلًا
…
لا راد لقضائه، ولا مُعقِّب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنَّا بذلك كله، وأيقنَّا أن كلا من عنده"
(1)
.
وقال الآجري: "مذهبنا في القدر أنا نقول إن الله عز وجل خلق الجنة، وخلق النار، وخلق لكل واحدة منهما أهلًا
…
لا معارض لله في حكمه، يفعل في خلقه ما يريد عدلًا، من ربنا قضاؤه وقدره
…
خلق الخلق كما شاء لما شاء فجعلهم شقيًّا وسعيدًا قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، وهم في بطون أمهاتهم، وكتب آجالهم، وكتب أرزاقهم، وكتب أعمالهم، ثم أخرجهم إلى الدنيا، وكل إنسان يسعى فيما كتب له وعليه
…
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم
…
أحب الطاعة من عباده، وأمر بها فجرت
(1)
الطحاوية مع شرحها (1/ 125 - 139).
ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبة منه لها، ولا أمر بها تعالى عز وجل أن يأمر بالفحشاء أو يحبها، وجل الله تعالى ربنا من أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم قبل أن يعملوا قضاء وقدرًا، قد جرى القلم بأمره تعالى في اللوح المحفوظ بما يكون من بر وفجور
…
يضل من يشاء ويهدي من يشاء"
(1)
.
وبيَّن ابن تيمية رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، فقال:"مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان: وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد، وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلَّا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو القادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلَّا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم: قدَّر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون"
(2)
.
وقال أيضًا: "ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم
(1)
الشريعة (2/ 699، 702).
(2)
الفتاوى (8/ 449).
بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بقدرتهم ومشيئتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلَّا أن يشاء الله"
(1)
.
وقد قال القرطبي في بيانه لمعنى الإيمان بالقدر: "الإيمان بالقدر هو التصديق بما تقدم ذكره، وحاصله: هو ما دل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}
(2)
وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(3)
، وقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
(4)
. وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله عليه الصلاة والسلام:"كل شيء بقدر حتى العَجْز والكيس"
(5)
"
(6)
.
والقرطبي والمازري على مذهب الأشاعرة في القدر، وقد صرَّح المازري في ذلك فقال في معرض رده على المعتزلة في قولهم في القدر: "
…
هذا أيضًا مطابق لقول الأشعرية أهل السنة في أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن المعاصي قضاها الله وقدَّرها، ألَا ترى قول السائل أرأيت ما يعمله الناس اليوم ويكدحون فيه؟ ولم يفرق بين خير وشرٍ، ولا طاعة ومعصية، وكذلك جوابه صلى الله عليه وسلم لم يفرق فيه بل قال: بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتلا كتاب الله مصدقًا لما قال ومسويًا بين الفجور والتقوى
(1)
المرجع السابق (8/ 459).
(2)
سورة الصافات، الآية:96.
(3)
سورة القمر، الآية 49.
(4)
سورة الإنسان، الآية:30.
(5)
سبق تخريجه ص (223).
(6)
المفهم (1/ 145).
بقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)}
(1)
فأخبر سبحانه عن النفس وما فعل فيها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم:"كل شيء بقدر حتى العَجْز والكَيْس" مطابقٌ أيضًا لقول الأشعرية في هذا، وكذلك قوله: "جاء قوم مشركون يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فنزل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} إلى قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(2)
"
(3)
وهكذا الأحاديث كلها مطابقة لقول أهل الحق"
(4)
.
ويتبين متابعة المازري والقرطبي للأشاعرة في القدر، والذي يميل إلى مذهب الجبر من خلال الحديث عن المسائل المتعلقة بالقدر، كأفعال العباد، والتحسين والتقبيح العقليين، وتكليف ما لا يطاق وغيرها من المسائل. وإلَّا فالأشاعرة يوافقون أهل السنة في الإيمان بمراتب القدر الأربع التي هي:
- الإيمان بعلم الله الأزلي: إذ علم سبحانه ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}
(5)
.
- والإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق فما من شيء في الكون إلَّا وقد علمه سبحانه، وكتبه قبل حدوثه، كما قال تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ
(1)
سورة الشمس، الآية:8.
(2)
سورة القمر، الآية:49.
(3)
سبق تخريجه ص (223).
(4)
المعلم (3/ 176).
(5)
سورة الحج، الآية:70.
وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)}
(1)
.
- والإيمان بمشيئة الله الشاملة، وقدرته تعالى التامة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
(2)
.
- والإيمان بخلقه سبحانه وإيجاده للأشياء، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، كما قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
(3)
.
قال الدكتور عبد الرحمن المحمود: القدر له أربع مراتب، هي العلم، والكِتابة، والمشيئة، والخلق. فأما مرتبتا العلم والكتابة، فلم ينكرهما إلّا غلاة القدرية
…
وأما مرتبتا المشيئة والإرادة والخلق فقد وقع فيهما الخلاف على قولين:
أحدهما: إنكار هاتين المرتبتين، وهذا مذهب المعتزلة
…
الثاني: الإقرار بهاتين المرتبتين بإثبات الإرادة والمشيئة الشاملة، والقول بأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد. وهذا قول الجمهور من أهل السنة والجهمية والأشاعرة والماتريدية ومن وافق هؤلاء.
ولكن أفعال العباد لها متعلقان: أحدهما: بالخالق تعالى، فهذا قد اتفق فيه أهل السنة والأشاعرة على أن الله خالق أفعال العباد.
والثاني: بالعبد، وهل له قدرة أو لا؟ وهل قدرته مؤثرة أم غير
(1)
سورة سبأ، الآية:3.
(2)
سورة التكوير، الآية:29.
(3)
سورة الزمر، الآية:62.
مؤثرة؟ وقع فيها الخلاف بين الطوائف إلى حدٍ كبيبر
(1)
.
والأقوال في القدر ترجع إلى ثلاثة أقوال:
الأول: قول أهل الجبر الذين يقولون إن الإنسان مجبور على أفعاله، وليس له إرادة ولا قدرة، وهو مذهب الجهمية ومن وافقهم.
الثاني: قول القدرية الذين قالوا إن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله من غير إرادة الله تعالى أو علمه، ويمثل هذا المذهب المعتزلة ومن وافقهم.
الثالث: من توسط فأثبت القدر وأن الله خالق كل شيء، وأن للإنسان مع ذلك إرادة ومشيئة، ولكنه خاضعة لمشيئة الله تعالى، كما أن للإنسان قدرة يفعل بها الفعل، ولكنه هو وأفعاله مخلوق لله تعالى، وهذا هو مذهب السلف.
وبين هذه الطوائف الثلاث ظهرت فرق تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة ثانية، ويكون الحكم عليها حسب ما يغلب على مذهبها، فقد يقال: إنها مائلة إلى مذهب الجبر، أو إلى مذهب السلف، أو إلى مذهب القدرية، ومن أشهر هذه الطوائف طائفة الأشعرية، حيث يغلب عليهم مخالفة المعتزلة، والميل إلى مذهب الجبرية، وإن لم يصلوا إلى حد موافقة الجهم
(2)
في أقواله
(3)
. فغلوهم في مخالفة المعتزلة أوصلهم إلى موافقة الجبرية في بعض مسائل القدر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الأشعرية وبعض المثبتين للقدر
(1)
موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1330).
(2)
الجهم بن صفوان الراسبي السمرقندي أبو محرز رأس الضلالة وإمام الجهمية أجمع السلف على ذمه لما زرع من الشر والفساد بأقواله قتل سنة (128 هـ). سير أعلام النبلاء (6/ 26). البداية والنهاية (10/ 28).
(3)
موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1308).