الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو العباس، جمال الدين القرطبي"
(1)
.
المطلب الثاني: مولده ونشأته
أولًا: مولده:
ولد رحمه الله في قرطبة من بلاد الأندلس عام (578 هـ) ثمان وسبعين وخمسمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وهذا محل اتفاق بين من ترجموا له إذ لم يذكر أحد سوى هذا التاريخ لولادته. ولم أجد من ذكر اليوم أو الشهر الذي ولد فيه بل جميعهم اكتفوا بذكر السنة.
ثانيا: بيئته ونشأته:
نشأ أبو العباس في مكان ولادته في قرطبة في بيئة علمية فوالده على ما يبدو من طلبة العلم أو العلماء وإن لم أظفر له بترجمة لكن جاء في افتتاح كتاب المفهم ما نصه: "قال الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث أبو العباس أحمد بن الشيخ الفقيه أبي حفص عمر القرطبي الأنصاري"
(2)
. وتطواف هذا الوالد بولده وهو صغير في حواضر العلم في سائر أنحاء العالم الإسلامي ليسمع من العلماء مع مشقة ذلك في تلك الأوقات ليَدُلُ دلالة أكيدة على أنه من أهل العلم العارفين بفضله
(3)
.
قال ابن فرحون: رحل أبو العباس مع أبيه من الأندلس في سن الصغر فسمع كثيرًا بمكة والمدينة والقدس، ومصر، والإسكندرية،
= (1/ 326)، معجم المؤلفين (1/ 377).
(1)
هدية العارفين للبغدادي (1/ 96).
(2)
المفهم (1/ 85).
(3)
تحقيق كتاب الإيمان من المفهم للطريري (1/ 80).
وغيرها من البلاد
(1)
.
ونشأة أبي العباس في هذه البيئة العلمية الصالحة كان له أثر كبير على مستقبل حياته وتوجهه للعلم، وجده في طلبه.
وقد عاش القرطبي الشطر الأول من حياته في قرطبة، وإن تخلل ذلك رحلات في سائر البلاد الإسلامية -كما سبق ذكره- حينما رحل مع والده في سن الصغر إلى الشام ومصر والحجاز، عاد بعدها إلى قرطبة، إذ رحلته تلك قبل مجاوزته الاثنتي عشرة سنة، بدليل أخذه من القاسم بن فيرة بمصر، وهو قد توفي سنة (590 هـ)
(2)
.
وقد أخطأ من اعتبر رحلته هذه إلى مصر هي التي استقر فيها هناك، إذ وجد دليل على وجوده في قرطبة بعد هذا التاريخ.
فقد ذكر أنه سمع صحيح مسلم في قرطبة سنة (607 هـ)
(3)
.
وقد ذكر ابن مسدي
(4)
أنه لقيه بغرناطة سنة (614 هـ)
(5)
.
وقد رحل إلى الحج سنة (617 هـ)
(6)
حيث قال في رحلته تلك:
(1)
الديباج المذهب ص (131).
(2)
وفيات الأعيان (4/ 72)، نفح الطيب (2/ 22).
(3)
تلخيص صحيح مسلم للقرطبي (1/ 34).
(4)
محمد بن يوسف بن موسى بن مسدي المهلبي الغرناطي، محدث، فقيه، مقرئ، رحل إلى المشرق، ثم جاور بمكة، من آثاره:"أعلام الناسك بأحكام المناسك". توفي سنة (363 هـ). الديباج المذهب ص (420)، معجم المؤلفين (3/ 790).
(5)
توضيح المشتبه لابن ناصر الدين الدمشقي (8/ 139).
(6)
تغلب الإفرنج على دمياط سنة (615 هـ) وانكسروا سنة (617 هـ) على يد الكامل محمد بن العادل الأيوبي، وتغلبوا عليها مرة أخرى سنة (647 هـ)، وانكسروا سنة (648 هـ). البداية والنهاية (13/ 866، 91، 99، 189، 190)، الكامل في التاريخ (10/ 394، 400).
وما ذكره القرطبي هنا إما سنة (617 هـ) أو سنة (648 هـ)، وقد رجَّح الدكتور محمد=
"لما وصلت إلى تونس قاصدًا إلى الحج سمعت أخبارًا سيئة عن البلاد المصرية، من جهة العدو الذي غلب على دمياط، فعزمت على المُقام بتونس إلى أن ينجلي أمر العدو، فجدد الله عزمًا وأزال عني ما كنت أتخوفه من أمر العدو، وسافرت إلى أن وصلت إلى الإسكندرية، فوجدتها والديار المصرية على أشد خوف وأعظم كرب، والعدو قد استفحل أمره، وعظمت شوكته، فلم أكمل في الإسكندرية عشرة أيام حتى كسر الله العدو، ومكَّن منه من غير صنع أحد من المخلوقين، بل
= أبا الخيل في كتابه "جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى" أن كلام القرطبي هنا سنة (647 هـ)، ورجح الدكتور عبد الوهاب الطريري في تحقيقه للمفهم أن هذا سنة (617 هـ)، وهو الذي يترجح عندي لأسباب، منها: أن قرطبة ساءت أحوالها فخرج عامة أهلها خصوصًا العلماء وطلبة العلم، خوفًا على أنفسهم من تسلُّط النصارى، خصوصًا بعد سقوط قرطبة سنة (633 هـ)، وكان فيمن خرج أبو عبد الله القرطبي المفسر، وأبو القاسم أخو أبي العباس القرطبي، قال أبو عبد الله القرطبي:"ولقد أخبرني صاحبنا أبو القاسم رحمه الله أخو شيخنا أبي العباس أحمد بن عمر رحمه الله أنه ربط نحوًا من خمسين امرأة واحدة بعد الأخرى حتى خرجوا من قرطبة أعادها الله". التذكرة (724)، وقد أُسر عدد من العلماء في قرطبة حينما تغلب النصارى عليها، فمن المستبعد أن يمكث أبو العباس فيها خمسة عشر عامًا بعد سقوطها وهو الذي تصدى للنصارى باللسان والسنان، وقد ألَّف كتابه القيم "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام" ولو بقي لامتدت إليه يد الحقد، كما امتدت إلى غيره من العلماء. إضافة إلى أن أبا العباس من خلال الوقوف على سيرته وعلى أسماء شيوخه يتضح أنه قد أخذ منهم في مصر بعد استقراره فيها ولا يكون ذلك إذا كان استيطانه فيها بعد (648 هـ) حيث جاوز غالبًا سن الطلب، فقد بلغ السبعين سنة إضافة إلى قصر المدة التي بقيها في مصر على هذا الرأي حيث تكون أقل من تسع سنوات، وهذه مدة قصيرة لا يتسنى خلالها قراءة التلاميذ عليه، وانتشار علمه، وذياع صيته، ولم يذكر له جلوس للتدريس في قرطبة ويبعد أن يبلغ هذا السن في قرطبة وليس له تلاميذ فيها. فالذي يترجح عندي أن وصف هذا الحال لدمياط يعود إلى استيلاء الإفرنج الأول عليها، وانكسارهم سنة (617 هـ) هو الموافق لحاله وسيرته والله تعالى أعلم.