الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر الأقسام الثلاثة التي ذكرها أهل العلم وسبق نقلها عن القرطبي.
المطلب السابع: التبرك:
من معتقد أهل السنة والجماعة أن البركة من الله تعالى، فلا تطلب إلَّا منه، وطلبها من غيره شرك
(1)
.
ولكنه سبحانه وتعالى جعل بركة في بعض الأعيان والأقوال والأفعال، فهي سبب للبركة. والبركة في الأشياء لا تعرف إلَّا عن طريق الشرع، ثم التبرك بهذا الشيء لا يكون إلَّا على الصفة المشروعة التي جاء بها الشارع، وذلك لإقفال باب البدع والخرافات، فمثلًا طلب بركة السحور التي جاءت في الحديث
(2)
يكون بالتسحر، وطلب بركة ماء زمزم
(3)
بشربه، وهكذا.
وأما ما يتعلق بالتبرك بالأشخاص وآثارهم، فتفصيل ذلك كما يأتي:
التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم
-:
دلَّت النصوص على التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم وبآثاره، فهو صلى الله عليه وسلم مبارك في ذاته وأفعاله وآثاره، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون به وبآثاره، وقد أقرهم على ذلك، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية وفيه: "ما تنخم النبيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلَّا وقعتْ في
(1)
انظر التبرك المشروع والتبرك الممنوع للدكتور علي بن نفيع العلياني ص (17).
(2)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم "تسحروا فإنَّ في السَّحور بركَة" رواه البخاري في كتاب الصوم، باب بركة السحورح (1923)(4/ 165) ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل السحورح (1095)(7/ 213).
(3)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إنها مباركة إنها طعام طعم" رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه ح (2473)(16/ 263).
كفِّ رجُلٍ منهم فدلَكَ بها وجهَهُ وجلدَه"
(1)
.
فهذا الحديث وأمثاله يدل على مشروعية التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبآثاره، كفضل وضوئه وشعره
(2)
.
وأما التبرك بالمواضع التي نزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أو صلى فيها اتفاقًا من غير قصد، فقد ذهب بعض المتأخرين من العلماء إلى استحباب ذلك، واستدلوا على مشروعية ذلك بفعل ابن عمر رضي الله عنهما فقد كان يتحرى الصلاة في المواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول في أماكن نزوله في سفره
(3)
. وما جاء في صحيح البخاري أيضًا أن عتبان بن مالك طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في مكان في بيته ليتخذه مصلى فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك
(4)
.
ورأى الآخرون المنع من ذلك؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ذلك سوى ابن عمر رضي الله عنهما. فتحري ذلك ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا
(1)
رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب ح (241)، (1/ 420).
(2)
على أنه من المناسب لنا في هذا الزمن عند الحديث عن التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم أن ننقل قول العلامة الألباني في هذه المسألة حيث قال: إننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره-صلى الله عليه وسلم ولا ننكره لكن يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلًا على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله ونعلم أنَّ آثاره صلى الله عليه وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت وليس بامكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا غير ذي موضوع في زماننا هذا ويكون أمرًا نظريًا فلا ينبغي إطالة القول فيه. التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص (161).
(3)
رواه البخاري في كتاب الصلاة باب المساجد التي على طرق المدينة والموضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ح (483)(1/ 676).
(4)
رواه البخاري في كتاب الصلاة باب المساجد في البيوت ح (425)(1/ 618).
خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ ! . إضافة إلى أن ذلك تشبُّهٌ بأهل الكتاب، وقد يكون ذريعة إلى الشرك بالله تعالى
(1)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدًا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات"
(2)
.
"على أن من العلماء من رخَّص في ذلك إذا لم يتخذ عيدًا فيكثر انتياب الناس له لأجل ذلك"
(3)
.
والقرطبي رحمه الله أقرَّ التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وبآثاره -وهو مشروع بلا شك- وقرر مشروعية بل فضل التبرك بمواضعه، فقال:"كان أصحابه يتبركون بوضوئه وشرابه، وبعرقه، ويستشفون بجبته، ويتبركون بآثاره، ومواطنه، ويدعون، ويصلون عندها، وهذا كله عمل بمقتضى الأمر بالتعزير والتعظيم ونتيجة الحب الصحيح"
(4)
.
(1)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص 390).
(2)
المرجع السابق (ص 387).
(3)
انظر: المرجع السابق (ص 384، 387).
(4)
المفهم (5/ 276).
وما ذكره القرطبي هنا من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بمواطنه، ويدعون ويصلون عندها ليس بصحيح، بل نقل ذلك عن ابن عمر فقط، خالف فيه جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار كما قال ابن تيمية.
وقال القرطبي في موضع آخر في كتاب الحج؛ "المبيت بذي طوى ودخول مكة نهارًا ليس من المناسك، لكن إن فعل ذلك اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتتبعًا لمواضعه، كان له في ذلك ثوابٌ كثير، وخير جزيل"
(1)
.
وقال أيضًا: "والتعريس بذي الحليفة ليس من سنن الحج ولا العمرة، ولكنه مستحب تبركًا بالنبي صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
على أنه -عفا الله عنه- قد غلا في ذلك، وتجاوز الحد، فقد جعل وجود خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة سببًا لاستقامة أمرهم، وفقده سببًا لما حصل بينهم من حروب وفتن، فقال:"وكون الخلفاء تداولوا خاتم النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك تبركًا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، واقتداءً به، واستصحابًا لحاله، حتى كأنه حي معهم، ولم يزل أمرهم مستقيمًا متفقًا عليه في المدة التي كان ذلك الخاتم فيهم، فلما فُقِد اختلف الناس على عثمان رضي الله عنه وطرأ من الفتن ما هو معروف، ولايزال الهرج إلى يوم القيامة"
(3)
.
بل جعل رؤية قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات التي يؤثرها العبد على أهله وماله ونفسه والناس أجمعين، حيث قال؛ "من المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى -أي عن محبة
(1)
المفهم (3/ 373).
(2)
المفهم (3/ 458).
(3)
المفهم (5/ 411).
الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته، فهذا بأخس الأحوال، لكنه إذا ذُكِّرَ بالنبي صلى الله عليه وسلم وبشيء من فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته، بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره ومواضع آثاره على أهله وماله وولده ونفسه والناس أجمعين"
(1)
.
وقال في موضع آخر، وهو يذكر فضائل المدينة:"ففي حياته صلى الله عليه وسلم: صحبته ورؤية وجهه الكريم، وبعد وفاته: مجاورة جسده الشريف، ومشاهدة آثاره المعظمة، فطوبى لمن ظفر بشيء من ذلك، وأحسن الله عزاء من لم ينل شيئًا مما هنالك"
(2)
.
ونقل عن القاضي عياض مقرًّا له جعل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، حيث قال:"قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن موضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض كلها"
(3)
.
ولا شك أن هذا من الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم"
(4)
، وقال:"لا تجعلوا قبري عيدًا"
(5)
، وغيرها من الأحاديث الناهية عن الغلو في شخصه صلى الله عليه وسلم فضلًا عن آثاره.
ومع ما وقع فيه القرطبي رحمه الله هنا من الغلو المذموم، إلَّا أنه قرر ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من النهي عن الصلاة إلى القبور،
(1)
المفهم (1/ 227).
(2)
المفهم (3/ 496).
(3)
المفهم (3/ 503).
(4)
رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} (3445)(6/ 551).
(5)
رواه أحمد في مسنده (2/ 367) وأبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1211) برقم (7226).
والبناء عليها، سدًّا لذريعة الشرك، وحماية لجانب التوحيد، فقال:"حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا -أي تعظيم القبور والصور- وشدَّد النكير والوعيد على مثل هذا، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد"
(1)
أي: أنهاكم عن ذلك
…
ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلو حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن تتخذ موضع قبره قبلة، إذ كان مستقبل المصلين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره"
(2)
.
وقال عند شرحه لحديث النهي عن تجصيص القبور: "بظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه، ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور: أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعظم القبور ويعبدها وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النهي ينبغي أن يقال هو حرام كما قد قال به بعض أهل العلم"
(3)
.
وقال في موضع آخر: "قوله: "لا تصلوا إلى القبور"
(4)
أي: "لا تتخذوها قبلة لقطع الذريعة أن يعتقد الجهال في الصلاة إليها أو عليها
(1)
سبق تخريجه ص (290).
(2)
المفهم (2/ 128).
(3)
المفهم (2/ 626).
(4)
رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه ح (972)(7/ 43).