الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته؟ ولهذا كان أبو سعيد بن كلَّاب - رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة - لا يذكر في بيانها شيئًا يعقل، بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس، والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام، فالساكت هو الساكت عن الكلام، والأخرس هو العاجز عنه، أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام، وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه"
(1)
.
قولهم كلام الله ليس بحرف ولا صوت:
ذهب الأشاعرة إلى القول بأن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، وقالوا: إذا كان المتكلما ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات، والباري جل ثناؤه ليس بذي مخارج وكلامه ليس بحرف ولا صوت
(2)
.
قال القرطبي: "لا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبهه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف، ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحت خصوصية الفضيلة لموسى بذلك إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشترك، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
(3)
"
(4)
.
وعند شرحه لقوله عليه السلام في بيان كيف يأتيه الوحي:
(1)
الفتاوى (6/ 296).
(2)
الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 28).
(3)
سورة التوبة، آية:6.
(4)
المفهم (1/ 433).
"أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليَّ
…
"
(1)
.
قال: "والذي عندي في هذا الحديث: أن هذا تشبيه لأصوات خفق أجنحة الملائكة، فيعني أنها متتابعة متلاحقة، لا أن الله تعالى يتكلم بصوت، فإن كلامه تعالى ليس بحرف ولا صوت كما هو مبرهن عليه في موضعه فإن أراد هذا القائل: أن كلام الله تعالى القائم به صوت يسمع بحاسة الأذن فهو غلط فاحش، وما هذا اعتقاد أهل الحق، وإن أراد: أن الملائكة تسمع كلام ملك آخر يبلغهم عن الله بصوت فصحيح"
(2)
.
سئل شيخ الإسلام عن كلام الله تعالى هل هو بحرف وصوت، أم لا؟ فقال: الصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلامًا لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام، ليس هو الحرف فقط، ولا المعنى فقط
…
وأن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح"
(3)
.
وقد نصَّ أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم به بحرف
(1)
رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ح (2)(1/ 25). ومسلم في كتاب الفضائل باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي ح (2333)(15/ 95).
(2)
المفهم (6/ 171).
(3)
الفتاوى (12/ 243، 244).
وصوت، ليس منه شيء كلامًا لغيره لا جبريل ولا غيره"
(1)
.
فقول الأشاعرة هذا ليس عليه دليل سوى زعمهم أن إثبات الصفة يقتضي تشبيه الله تعالى بخلقه؛ لأن الحرف والصوت من صفات كلام المخلوقين.
وأهل السنة يثبتون هذه الصفة لله تعالى من غير تشبيه له بخلقه، ويبطلون زعم الأشاعرة أن إثبات الصوت يلزم منه إثبات المخارج وغير ذلك من اللوازم الباطلة التي نطقوا بها.
وقد ردَّ عليهم الإمام أحمد في هذه المسألة فقال: "أما قولهم: إن الكلام لا يكون إلَّا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله قال للسموات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}
(2)
وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}
(3)
أتراها سبحت بجوف وفم ولسان وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}
(4)
أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان، ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان"
(5)
.
فهذه النصوص تدل على أن المتكلم ليس من شرطه أن يكون ذا مخارج فبطل ما زعموا.
أما قول القرطبي لو كان سمع موسى كلام الله تعالى بحرف وصوت لم تكن له خصوصية إذ قد سمعه بحرف وصوت جميع الناس ثم استدل
(1)
المرجع السابق (12/ 584).
(2)
سورة فصلت، آية:11.
(3)
سورة الأنبياء، آية:79.
(4)
سورة فصلت، آية:21.
(5)
الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص (35).
بالآية على ما سبق ذكره.
فيقال: "موسى عليه السلام وحده هو الذي سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت، والخطأ في عدم التفريق بين كلام الله تعالى وبين الأصوات المسموعة من القراء كما هو فهم الأشاعرة حيث حسبوا أهل السنة بإثباتهم لكلام الله تعالى بصوت يقولون: إن أصوات التالين هي صفة كلام الله وأهل السنة يقولون: أن أصوات القراء بالقرآن من أفعالهم وهي مضافة إليهم، وأفعالهم مخلوقة فأصوات القراء ليست صفة لكلام الله. ولكن الصوت الذي هو صفة لكلام الله تعالى هو الذي سمعه موسى عليه السلام حين ناداه ربه وكلَّمه وسمعه جبريل عليه السلام حين يوحي إليه بالوحي ويسمعه العباد يوم القيامة"
(1)
.
قال شيخ الإسلام: "كثير من الخائضين في هذه المسألة لا يفرق بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينفيهما جميعًا أو يثبتهما جميعًا، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه، ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة، وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، فالعباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم، وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام البارئ. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم"
(2)
فبين أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام البارئ كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
(3)
وهو سبحانه نادى
(1)
انظر: العقيدة السلفية ص (382، 383).
(2)
رواه أبو داود في أبواب الوتر، باب كيف يستحب الترتيل في القرآن، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ص (669) برقم (3580).
(3)
سورة التوبة، آية:6.