الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقتضت حكمة اللّة، تعالى أن لا يرسل رسولًا إلَّا ويؤيده بالدلائل الواضحة والبراهين الساطعة علي صدقه، وصحة نبوته، كما قال تعالى:{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}
(1)
، وقال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}
(2)
أي بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة، والعلامات الواضحة التي تدل على صدقهم
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما من الأنبياء نبي إلَّا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر"
(4)
.
قال القرطبي: "الأنبياء دلَّت على صدقهم دلائل المعجزات
(5)
، فمن ارتاب في صدقهم فجوابه بالمعجزات التي تدل قطعًا على صحة أقوالهم وصواب أفعالهم"
(6)
.
ودلائل النبوة التي يؤيد الله تعالى بها رسله تختلف من نبي إلى آخر فليست محصورة في المعجزات وليست من نوع واحد إذ المراد من الآيات الدلالة على النبوة بأي دليل كان، ومنها المعجزات لكونها خارجة على القدرة البشرية.
المطلب الأول: المعجزة والكرامة:
كما يؤيد الله سبحانه رسله بالمعجزات، فإنه تعالى يكرم بعض
(1)
سورة الأعراف، الآية:101.
(2)
سورة الحديد، الآية:25.
(3)
انظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 177).
(4)
رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم " ح 7274 (13/ 2161)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ح 152 (2/ 545).
(5)
المفهم (7/ 6).
(6)
انظر: المفهم (5/ 599).
أوليائه بالكرامات، التي هي خوارق للعادات، في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات. والتصديق بها من أصول أهل السنة والجماعة
(1)
.
وقد أنكرت طوائف من المبتدعة هذه الكرامات بدعوى أن هذا يؤدي إلى التباس النبي بالولي إذ لا تكون المعجزة دليلًا على صدق الأنبياء
(2)
.
ولا شك أن هذا القول تدل على بطلانه النصوص من الكتاب والسنة
(3)
، وما تواتر نقله عن سلف الأمة. قال القرطبي:"الكرامة تدل على حسن حال من ظهرت على يديه؛ لأن الكرامات تنسب لأولياء الله وهم أهل طاعته، لا إلى أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان، فلا يجوز نسبة الكرامات لأهل المعاصي إجماعًا"
(4)
.
وقد بيَّن القرطبي الفرق بين النبي والمتنبيء فقال: وأما الفرق بين النبي والمتنبيء فالمعجزة لا تظهر على يدي المتنبيء لأنه يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب وهو محال"
(5)
.
(1)
انظر: الفتاوى لابن تيمية (3/ 156)، ولوامع الأنوار للسفاريني (2/ 393).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (1/ 167).
(3)
من ذلك قوله تعالى عن مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]، وما جرى لأصحاب الكهف الذين ضرب الله تعالى على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنة، وازدادوا تسعًا، وحفظ الله أجسادهم هذه المدة الطويلة كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة الكهف. وقد ذكر شيخ الإسلام جملة من كرامات الأولياء الثابتة. انظر: الفتاوى (11/ 276 - 281).
(4)
المفهم (4/ 42).
(5)
المفهم (7/ 269).
وفرَّق المازري في خرق العادة بين النبي والولي والساحر، إذ قال:"العادة تنخرق على يد النبي، وعلى يد الولي، وعلى يد الساحر، إلَّا أن النبي يتحدى بها، ويستعجز سائر الخلق، ويحكي عن الله سبحانه خرق العادة لتصديقه، فلو كان كاذبًا، لم تخرق العادة على يديه، ولو خرقها لأظهر على يد غيره من المعارضين له، مثل ما أظهر على يده. والولي والساحر لا يتحديان ولا يستعجزان الخليقة ليستدلوا على صدقهم وعلى نبوتهم، ولو حاولوا أشياء من ذلك لم تنخرق لهم العادة، أو تنخرق ولكنها تنخرق لمن يعارضهم وأما الولي والساحر، فإنهما يفترقان من طريق أخرى وهي أن الساحر يكون ذلك علمًا على فسقه وكفره، والولي لا يكون علمًا على ذلك اشيه فافترق حال الثلاثة بعضهم من بعض"
(1)
.
وقال أيضًا: "إظهار المعجزة على يد الكذاب لا تصح فيقال: لم ظهرت على يد الدجال وهو كذاب؟ فيقال: لأنه يدعي الربوبية وأدلة الحدوث تحيل ما ادَّعاه وتكذبه. والنبي يدعي النبوة، وهي غير مستحيلة في البشر، وأتى بالدليل الذي لم يعارضه شيء فصدق"
(2)
.
وقال القرطبي في بيان أن مذهب أهل السنة إثبات الكرامات: "وقوع الكرامات للأولياء هو قول جمهور أهل السنة والعلماء لما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة مما يدل على وقوعها وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هو أهل لها وادعاء كثرة وقوع ذلك دائمًا متكررًا حتى يلزم عليه، أن يرجع خرق العادة عادة وذلك إبطال لسنة الله وحسم السبل الموصولة إلى معرفة أنبياء الله
(1)
المعلم (3/ 94).
(2)
المعلم (3/ 214).
تعالى"
(1)
.
وقد بيَّن القرطبي أن المعجزة التي تقع على يد الرسول لا يشترط فيها اقتران التحدي عند كل ظهور لها. لكن يكتفى بالإعلام أولًا بنبوته ودعوة الناس إلى تصديقه ومتابعته.
قال: "قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله"
(2)
عند وقوع ما أخبر به من الغيب دليل على أن ذلك من جملة معجزاته، وإن لم يقترن بها في تلك الحال تحد قولي وهذا على خلاف ما يقوله المتكلمون: إن من شروط المعجزة اقتران التحدي القولي بها، فإن لم تكن كذلك فالخارق كرامة لا معجزة والذي ينبغي أن يقال: إن ذلك لا يشترط بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلما ظهر لهم خارق للعادة على يدي النبي صلى الله عليه وسلم استدلوا بذلك على صدقه وثبوت رسالته
…
ولم يصدر عنه مع شيء من ذلك تحدٍ بالقول عند وقوع تلك الخوارق، ومع ذلك فهي معجزات والذي ينبغي أن يقال: إن اقتران القول لا يلزم بل يكفي من ذلك قول كلي يتقدم الخوارق كقول الرسول صلى الله عليه وسلم الدليل على صدقي ظهور الخوارق على يدي، فإن كل ما يظهر على يديه منها بعد ذلك يكون دليلًا على صدقه، وإن لم يقترن بها واحدًا واحدًا قول ويمكن أن يقال: إن قرينة حاله تدل على دوام التحدي فيتنزل ذلك منزلة اقتران القول"
(3)
.
قد يفهم من هذه النقولات موافقة القرطبي والمازري للأشاعرة في مذهبهم في المعجزات، وإن كان القرطبي قد صرَّح بمخالفته لقول
(1)
المفهم (6/ 517).
(2)
سبق تخريجه ص (215).
(3)
المفهم (1/ 319، 320).