الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول النفخ في الصور
النفخ في الصور هو المؤذن بقيام الساعة وعنه ينشأ الصعق والبعث، وقد عرف القرطبي الصور، فقال: الصور قيل: إنه جمع صورة. والصحيح ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الصور قرن ينفخ فيه"
(1)
.
وأمَّا الصعق الذي ينشأ عن النفخ في الصور فقال القرطبي في تعريفه: "أصل الصعق والصعقة: الصوت الشديد المنكر كصوت الرعد وصوت الحمار، وقد يكون معه موت لشدته، وهو المراد بقوله:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}
(2)
وقد تكون معه غشية، وهو المراد بقوله تعالى:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}
(3)
فإن كان معه نار فهو الصاعقة"
(4)
.
عدد النفخات في الصور:
اختلف العلماء في عدد النفخات فقيل: ينفخ في الصور نفختان وقيل: ثلاث نفخات وقيل: أربع.
ومفهوم كلام القرطبي ميله إلى أنه ينفخ في الصور نفختان حيث قال: اختلف في عدد النفخات فقيل: ثلاثة: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، وقيل: هما نفختان: نفخة الفزع، هي نفخة
(1)
رواه أحمد في مسنده (2/ 126)، والترمذي في أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في الصور وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 68) حديث 1080.
(2)
سورة الزمر، الآية 1:68.
(3)
سورة الأعراف، الآية:143.
(4)
المفهم (6/ 232).
الصعق، لأن الأمرين لا زمان لها والله أعلم
(1)
.
وعند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين النفختين أربعون"
(2)
قال: "يعني: نفختي الصعق والبعث يشير إلى قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
(3)
"
(4)
.
والقول الراجح الذي تؤيده الأدلة أن النفخ في الصور نفختان فقط: الأولى: نفخة إماتة يموت فيها كل من كان حيًّا إلَّا من استثنى الله تعالى وهي نفخة الصعق.
والثانية: نفخة إحياء يحيى بها من مات، وهي نفخة البعث.
ولكن الإشكال مع هذا ما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل موسى عليه السلام، إذ قال:"لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلَّا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يبعث - وفي رواية -: أول من يفيق فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي"
(5)
.
وقد بيَّن القرطبي هذا الإشكال ووجه الانفصال عنه فقال: هذا مشكل بالمعلوم من الأحاديث الدالة على أن موسى عليه السلام قد
(1)
المفهم (6/ 232).
(2)
رواه البخاري في كتاب التفسير، باب:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} ح 4814 (8/ 414)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين ح 2955 (18/ 303).
(3)
سورة الزمر، الآية:68.
(4)
المفهم (7/ 306).
(5)
سبق تخريجه ص (648).
توفي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه في قبره، وبأن المعلوم المتواتر: أنه توفي بعد أن ظهر دينه وكثرت أمته ودفن بالأرض ووجه الإشكال: أن نفخة الصعق إنما يموت بها من كان حيًّا في هذه الدار فأما من مات فيستحيل أن يموت مرة أخرى؛ لأن الحاصل لا يستحصل ولا يبتغى، وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث وموسى قد مات، فلا يصح أن يموت مرة أخرى، ولا يصح أن يكون مستثنى ممن صعق؛ لأن المستثنين أحياء لم يموتوا، ولا يموتون، فلا، يصح استثناؤهم من الموتى، وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا الإشكال فقال: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا قول باطل بمما ذكرناه، قال القاضي عياض: "يحتمل أن المراد بهذه الصعقة صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرضون قال: فتستقل الأحاديث والآيات. قلت: وهذه غفلة عن مساق الحديث، فإنه يدل على بطلان ما ذُكر دلالة واضحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه حين يخرج من القبر فيلقى موسى وهو متعلق، بالعرش وهذا كان عند نفخة البعث ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرى موسى يقع له تردد في موسى على ظاهر هذا الحديث هل مات عند نفخة الصعق المتقدمة على نفخة البعث فيكون قد بعث قبله، أو لم يمت عند نفخة الصعق لأجل الصعقة التي صعقها على الطور جعلت له تلك عوضًا من هذه، وعلى هذا فكان حيًّا حالة نفخة الصور، ولم يصعق، ولم يمت وحينئذ يبقى الإشكال إذا لم يحصل عنه انفصال.
قلت: والذي يزيحه إن شاء الله تعالى أن يقال: إن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين فهذه صفات الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى
…
فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السموات
والأرض إلَّا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي ومن غشي عليه أفاق فهذا الذي يظهر لي والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"
(1)
.
قال الشيخ الغنيمان بعد نقله لكلام القرطبي السابق: "قلت: وحاصل هذا الجواب أن الصعقة المذكورة في الحديث هي الصعقة الأولى، وأن الصعق يكون للأرواح، وكل ذلك باطل؛ لأن الحديث ينص على أنها نفخة البعث، ومعلوم أن الأرواح لا تموت، فكيف يكون صعق غير الأنبياء موتًا مع أنه زعم أن الصعق للأرواح وكل ذلك يفتقر إلى دليل، والأدلة بخلافه.
ولهذا قال ابن القيم: وحمل الحديث على هذا لا يصح لأنه صلى الله عليه وسلم تردد هل أفاق موسى قبله، أو لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور. فالمعنى لا أدري أصعق أم لم يصعق؟ .
وقال في الحديث: "فأكون أول من يفيق" وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يصعق فيمن يصعق وأن التردد حصل في موسى هل صعق وأفاق قبله من صعقته أو لم يصعق؟ ولو كان المراد به الصعقة الأولى، وهي صعقة الموت، لكان صلى الله عليه وسلم قد جزم بموته وتردد هل مات موسى أو لم يمت وهذا باطل
…
فالأقرب في هذه المسألة ما قاله الحليمي: "أن المعنى إذا نفخ في الصور مرة أخرى كنت أول من بعث فأجد موسى مبعوثًا قبلي، فلا أدري أفضل بذلك على سائر الخلق، أو أن ذلك جزاء له بصعقه الطور، وهذا بناء على أن النفخ في الصور مرتان وهو الذي تؤيده الأدلة
(1)
المفهم (6/ 232، 234).
الصحيحة"
(1)
.
واختلف في المستثنى من النفخ من هو؟ فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وقيل: الشهداء، والصحيح: أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل، والله أعلم
(2)
.
قال شيخ الإسلام: وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثنى الله، فإن الله أطلق في كتابه وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا مثل العلم بوقت الساعة لا ينال إلَّا بالخبر والله أعلم
(3)
.
(1)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/ 424، 425، 428).
(2)
المفهم (7/ 306).
(3)
الفتاوى (4/ 261) بتصرف.