الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبحانه حقير، وكل عظيم عند الإضافة إليه هين
…
وإنما تعظيمه لبعض الأمور تنبيه لنا على قدرها عنده أو تعبد لنا بأن نعظمها فلا يقاس هذا على هذا"
(1)
.
المطلب السادس: الطيرة:
الطيرة: مصدر طار يطير طيرة وطيرانًا. وأصلها: أن العرب كانوا إذا خرج الواحد منهم في حاجة نظر إلى أول طائر يراه، فإن طار عن يمينه تشاءم به، وامتنع عن المضي في تلك الحاجة، وإن طار عن يساره تيمن به، ومضى في حاجته.
وأصل هذا: أن الرامي للطير إنما يصيب ما كان عن يساره ويخيبه ما كان عن يمينه، فسمي التشاؤم: تطيرًا بذلك
(2)
. وحاصل الطيرة: أن يسمع الإنسان قولًا أو يرى أمرًا، يخاف منه ألَّا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله
(3)
.
وقال المازري في تعريف الطيرة: "الطيرة مأخوذ مما كانوا يعتادونه في الطير ويعتقدونه في البوارح والسوانح، وكان لهم في التشاؤم والتيامن طريقة معروفة، وقيل منها أخذ اسم الطيرة
…
وقال بعضهم: الطيرة أخذ المعاني من أمور غير محسوسة ولا معقولة، ولا معنى يشعر العقل بما يتوقع من ذلك، فلهذا فارقت الفأل وإنها لا تقع إلَّا على توقع أمر مكروه"
(4)
.
وقد جاء النهي عن الطيرة لما فيها من نسبة أفعال الله سبحانه إلى
(1)
المعلم (2/ 240).
(2)
المفهم (2/ 140).
(3)
المفهم (5/ 626).
(4)
المعلم (3/ 104).
شيء من خلقه، ولما يؤدي إلى الاعتقاد بأن لتلك المخلوقات تأثيرًا في قضاء الله وقدره. فقد قال صلى الله عليه وسلم:"الطيرةُ شرك، وما منا إلَّا، ولكن يذهبه الله بالتوكل"
(1)
.
قال القرطبي: "وإنما كان صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة؛ لأنها من أعمال الشرك؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله تعالى، كما قد روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة شرك -ثلاثًا- وما منا إلَّا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" أي: من اعتقد في الطيرة ما كانت الجاهلية تعتقده فيها فقد أشرك مع الله تعالى خالقًا آخر، ومن لم يعتقد ذلك فقد تشبه بأهل الشرك"
(2)
.
هذا إذا صدت الإنسان عن حاجته كما قال صلى الله عليه وسلم: "من ردَّتُه الطيرةُ عن حاجته فقد أشرك"
(3)
. لكن إذا وقع في نفسه شيء من ذلك، ولكنه توكل على الله ومضى في حاجته، فلا يلحقه إثمٌ ولا ذم، إذ لا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها، لما جاء من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منَّا رجالًا يأتون الكهان قال: "فلا تأتهم" قال: ومنا رجال يتطيرون، قال:"ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصُدَّنهم"
(4)
.
(1)
رواه الترمذي في أبواب السير، باب ما جاء في الطيرة، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، ورواه أبو داود في كتاب الكهانة والتطير، باب في الطيرة، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 791) برقم (429).
(2)
المفهم (5/ 628).
(3)
رواه أحمد في مسنده (2/ 220)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 53) رقم (1065).
(4)
رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ح (537)(5/ 23).
قال القرطبي في شرحه لهذا الحديث: "معنى ذلك أن الإنسان بحكم العادة يجد في نفسه نفرة وكراهة مما يتطير به، فينبغي له ألا يلتفت إلى تلك النفرة، ولا لتلك الكراهة، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه، فإن تلك الطيرة لا تضر، وإذا لم تضر فلا تصد الإنسان عن حاجته، وأشار به إلى أن الأمور كلها بيد الله تعالى فينبغي أن يعول عليه، وتفوض جميع الحوائج إليه، ويفهم منه: أن هذا الوجدان لتلك النفرة لا يلام واجدها عليها شرعًا؛ لأنه لا يقدر على الانفكاك عنها، وإنما يلام الإنسان أو يمدح على ما كان داخلًا تحت استطاعته"
(1)
.
وقال المازري حول هذا الحديث: "أي يجدون ذلك ضرورة فلا ملام عليهم فيه، ولكن إنما يكون اللوم على توقفهم عن إمضاء حوائجهم لأجل ذلك، وهو المكتسب فنهاهم أن يصدهم ذلك عما أرادوا فعله"
(2)
.
وبيَّن القرطبي في موضع آخر أن المعرض عما يجد الماضي في حاجته على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يُذهبُ الله سبحانه وتعالى عنه ما يجد إذا علم منه صدق التوكل، وصحة التفويض، حيث قال: "المتطيَّر ليس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلَّا أن يمضي لوجهه، ويعرض عنها، غير أنه قد لا يقدر على الانفكاك عنها، بحيث لا تخطر له مرة واحدة، فإن إزالة تأثيرها من النفوس لا تدخل تحت استطاعتنا
…
لكنه إذا صحَّ تفويضه إلى الله تعالى وتوكل عليه وداوم على ذلك أذهب الله تعالى ذلك عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"ولكن الله يذهبه بالتوكل"
(3)
"
(4)
.
(1)
المفهم (2/ 141).
(2)
المعلم (1/ 275).
(3)
سبق تخريجه ص (305).
(4)
المفهم (5/ 628).
وبيَّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يتطير بشيء، إنما كان يحب الفأل، وعرف الفأل، فقال: هو أن يسمع الإنسان قولًا حسنًا، أو يرى شيئًا يستحسنه يرجو منه أن يحصل له غرَضه الذي قصد تحصيله، وهذا معنى ما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الفأل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة، ويعجبه الفأل
…
وإنما كان يعجبه الفأل؛ لأنه تنشرح له النفس، وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل، فيحسن الظن بالله عز وجل
(1)
. قالت عائشة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني، وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال"
(2)
.
وقد جعل القرطبي رحمه الله قول عائشة هذا ردًا على الجُهَّال الذين يتشاءمون من شهر شوال، وبيَّن أنه ينبغي إزالة ما في أذهان هؤلاء الجُهَّال من هذه الخرافات بالعمل على مخالفتها، فقال: هذا إنما قالته عائشة رضي الله عنها لترد به قول من كان يكره عقد النكاح في شهر شوال ويتشاءم به
…
ولذلك قالت عائشة ذلك رادَّة لذلك الوهم: "فأي نسائه كان أحظى عنده مني" أي: لم يضرني ذلك ولا نقص من حظوتي، ثم إنها تبركت بشهر شوال، فكانت تحب أن تدخل نساءها على أزواجهن في شوال للذي حصل لها فيه من الخير برسول الله، ومن الحظوة عنده، ولمخالفة ما يقول الجهال من ذلك.
ومن هذا النوع كراهة الجهال عندنا اليوم عقد النكاح في شهر المحرم، بل ينبغي أن يتيمن بالعقد والدخول فيه تمسكًا بما عظم الله
(1)
المفهم (5/ 626، 627).
(2)
المفهم (4/ 123).
ورسوله من حرمته وردعًا للجهال عن جهالاتهم"
(1)
.
على أنه ربما عورض ما سبق تقريره بقوله صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد مُمرضٌ على مُصح"
(3)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الشؤْمُ في ثلاثة: المرأة والفرس والدار"
(4)
.
أما الحديث الأول فقد قال القرطبي عند شرحه: "هذا الخطاب إنما هو لمن يجد في نفسه نفرة طبيعية لا يقدر على الانتزاع منها فأمره بالفرار لئلا يتشوش عليه ويغلبه وهمه وليس ذلك خوفًا لعدوى"
(5)
.
وأما الحديث الثاني: فقال القرطبي في شرحه: "إنما نهى عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد ذلك، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهذا كنحو أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم فإنا وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي فإنا نجد من أنفسنا نفرة وكراهية لذلك حتى إذا أكْرَهَ الإنسان نفسه على القرب منه، وعلى مجالسته تألمت نفسه وربما تأذت بذلك ومرضت ويحتاج الإنسان في هذا إلى مجاهدة شديدة ومكابدة، ومع ذلك فالطبع أغلب، وإذا كان الأمر بهذه المثابة فالأولى بالإنسان ألا يقرب شيئًا يحتاج الإنسان فيه إلى هذه المكابدة، ولا يتعرض فيه لهذا الخطر، والمتعرض لهذا الألم زاعمًا أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة هو بمنزلة من أدخل على
(1)
المفهم (4/ 124).
(2)
رواه البخاري في كتاب الطب باب الجذام ح (5707)(10/ 167).
(3)
رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة ح (5771)(10/ 251) ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة
…
ح (2221)(14/ 466).
(4)
رواه البخاري في كتاب الطب، باب الطيرة ح (3753)(10/ 223) ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم ح (2223)(14/ 469).
(5)
المفهم (4/ 75).
نفسه مرضًا أراد علاجه حتى يزيله، ولا شك في نقص عقل من كان على هذا، وإنما الذي يليق بالعقلاء، ويناسب تصرف الفضلاء أن يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام
…
وبمجموع الأمرين وردت الشرائع، وتوافقت على ذلك العقول والطبائع"
(1)
.
هذا هو الرأي الذي رجَّحه القرطبي في هذه المسألة وللعلماء أقوال كثيرة فيها:
فمن العلماء من رجَّح الأخبار الدالة على نفي العدوى على الأخبار المثبتة لها وبعضهم عكس ذلك. وآخرون حاولوا الجمع بين النصوص بطرق كثيرة أحدها ما ذكره القرطبي
(2)
.
وكذلك المازري ذكر بعض هذه الأقوال عند الجمع بين نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى ونهيه أن يورد ممرض على مصح، لكنه لم يرجح حيث قال:"قال بعض أصحابنا لا يورد ممرض على مصح منسوخ بقوله: "لا عدوى" وقال آخرون: ليس بينهما تناف فيفتقر إلى النسخ، ولكن نفي العدوى، وهي اعتقاد كون بعض الأمراض تفعل في غيرها بطبيعتها، وأما أن تكون سببًا لخلق الباري سبحانه عندها مرض
(3)
، ما وردت عليه، فلم ينفه، فإنما نهى أن يورد الممرض على المصح لئلا تمرض الصحاح من قبل الله جلت قدرته عند ورود المرضى فتكون المرضى كالسبب فيها، وقال آخرون: إنما المراد بهذا الاحتياط على اعتقاد الناس لئلا يتشاءم
(1)
المفهم (5/ 624) وانظر أيضًا (5/ 614).
(2)
انظر فتح الباري لابن حجر (10/ 160).
(3)
هذا على قول الأشاعرة بإثبات وجود تلازم عادي بين الأسباب والمسببات، أي أن المسببات تحدث عند الأسباب لا بها. انظر منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج الأشاعرة في توحيد الله (1/ 344).
بالإبل المريضة، ويعتقد أنها أمرضت إبله، فيأثم في هذا الاعتقاد، وقال آخرون: إنما ذلك للتأذي بمشاهدة المرضى، وما قد يكون فيها من رائحة تؤذي، وهو المراد بما وقع في بعض الأحاديث فإنه أذى، وقال بعض أصحابنا في هذا إن كانت مندوحة عن مخالطة من يتأذى كره للوارد وإلَّا فلا، وكذا في أهل الجذام، إذا تأذى الناس بمخالطتهم"
(1)
.
وأما الحديث الذي يثبت الشؤم في ثلاثة فقال القرطبي عند شرحه لهذا الحديث: "قد تخيل بعض أهل العلم أن التطير بهذه الثلاثة مستثنى من قوله: "لا طيرة"
(2)
وأنه مخصوص بها، فكأنه قال: لا طيرة إلَّا في هذه الثلاثة، فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك، وممن صار إلى هذا القول: ابن قتيبة، وعضد هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:"الطيرة على من تطير"
(3)
وقال أبو عبد الله
(4)
: إن مالكًا أخذ بحديث الشؤم في الدار والفرس وحمله على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في كتاب الجامع من "العتبية" أنه قال: رب دار سكنها قوم فهلكوا وآخرون بعدهم فهلكوا، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره، ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد، قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر،
(1)
المعلم (3/ 103).
(2)
قوله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة
…
" سبق تخريجه ص (308).
(3)
رواه ابن حبان في صحيحه، كتاب العدوى والطيرة والفال، باب ذكر الخبر على أنَّ الطيرة تؤذي المتطير ح (6123)(13/ 492).
(4)
محمد بن أحمد العتبي القرطبي المالكي من فقهاء المالكية، له كتاب "العتبية" وهي المستخرجة من الأسمعة المسموعة من الإمام مالك رحمه الله توفي في سنة (336). الديباج المذهب (336). الأعلام (5/ 307).
فذهب العدد وقل المال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوها ذميمة"
(1)
.
قلت -أي القرطبي-: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها وتفعل عندها، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به، ولا تفعله بوجهٍ، بناءً على أن الطيرة تضر قطعًا، فإن هذا ظنٌّ خطأ، وإنما يعني بذلك: أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك، فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه، ويسكن له خاطره، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه، أو مع امرأة يكرهها، بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم، فإن قيل: فهذا يجري في كل متطير به، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فالجواب: ما نبهنا عليه من أن هذه ضرورية في الوجود، ولابد للإنسان منها، ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم بها فخصها بالذكر لذلك فإن قيل: فما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء فإن الدار إذا تطير بها فقد وسع له في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد منع من الخروج منه؟ ! .
فالجواب ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لم يقع التأذي به ولا اطردت عادة به خاصة ولا عامة ولا نادرة ولا متكررة، فهذا لا يصغى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه،
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب الشؤم في الفرس، صحيح الأدب المفرد للألباني (341)، وأبو داود في كتاب الكهانة والتطير باب في الطيرة، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 417) برقم (790).
كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صُراخ بومة في دار، ففي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا طيرة" و"لا تطيروا" وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره وتعمل عليه مع أنه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة دارًا ما يشعر بأذى ولا مكروه لا على وجه الندور ولا التكرار.
وثانيها: ما يقع به الضرر، ولكنه يعم ولا يخص، ويندر ولا يتكرر كالوباء، فهذا لا يقدم عليه عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يفر منه لإمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفار فيكون سفره سببًا في محنته وتعجيلًا لهلكته.
ثالثها: سبب يخص ولا يعم، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة كالدار والفرس والمرأة، فيباح له الاستبدال والتوكل على الله تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال، وقد وضح الجواب والله الموفق للصواب"
(1)
.
ثم بيَّن رحمه الله بعض تأويل العلماء لهذا الحديث، وبين انتقاداته لها، وقرر أن ما ذكره في تخريج الحديث هو الأولى، فقال: "وقد سلك العلماء في تأويل ذلك الحديث أوجهًا أُخر.
منها: أن بعضهم قال: إنما هذا منه صلى الله عليه وسلم خبر عن غالب عادة ما يتشاءم به، لا أنه خبر عن الشرع
(2)
، وهذا ليس بشيء؛ لأنه تعطيل لكلام الشرع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله سبحانه وتعالى، ومنهم
(1)
المفهم (5/ 629).
(2)
وقد كانت عائشة رضي الله عنها، تنكر على أبي هريرة هذه الرواية وتقول إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك" وأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الإنكار فقال: ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة من ذكرنا من الصحابة له في ذلك. فتح الباري (6/ 61).
من تأول الشؤم المذكور في هذه الثلاثة، فقال: الشؤم في المسكن ضيقه، وسوء جيرانه، وفي المرأة سوء خلقها، وألا تلد، وفي الفرس جماحه وألا يُغزى عليه.
وهذا المعنى لا يليق بالحديث ونسبته إلى أنه هو مراد الشرع من فاسد الحديث. وما ذكرناه أولى والله تعالى أعلم"
(1)
.
وأما المازري فقد قال عن هذا الحديث: "مالك رضي الله عنه أخذ هذا الحديث على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في كتاب الجامع من المستخرجة أنه قال: رب دار سكنها قوم فهلكوا، وآخرون بعدهم فهلكوا، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره، وقال غيره: فإن هذا محمله على أن المراد به أن قدر الله سبحانه ربما اتفق بما يكره عند سكنى الدار، فيصير ذلك كالسبب فيتسامح في إضافة الشؤم إليه مجازًا واتساعًا، قالوا: وقد قال في بعض طرق مسلم: إن يكن الشؤم، وهذا لفظ ينافي القطع، ويكون محمله إن يكن الشؤم حقًّا فهذه الثلاث أحق به، بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها. وقد وقع في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا شكِيَ إليه في بعض الديار ذهاب الأهل والمال قال: دعوها ذميمة.
وقد اعترض بعض أهل العلم في هذا الموضع؟ بأن قال: فإنه نهى صلى الله عليه وسلم عن الفرار من بلد الطاعون، وأباح الفرار من هذه الدار فما الفرق؟ قال بعض أهل العلم: إن الجامع لهذه الفصول كلها ثلاثة أقسام
(2)
.
(1)
المفهم (5/ 629) وانظر أقوال العلماء في المسالة: في مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 257). وفتح الباري لابن حجر (6/ 71). وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ ص (428).
(2)
المعلم (3/ 104).