الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن ذبح الموت
لقد جاء في الحديث أن الموت يذبح يوم القيامة بين الجنة والنار إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ليكون زيادة في سعادة أهل الجنة وإكمالًا لنعيمهم وأمنًا لهم وعذابًا لأهل النار وزيادة لأحزانهم قال صلى الله عليه وسلم:"يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون من هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت! قال: ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون من هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح قال: ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت ويا أهل النار! خلود فلا موت" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
(1)
وأشار بيده إلى الدنيا"
(2)
.
وقد استشكل هذا الحديث على البعض إذ قالوا: إن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسمًا فكيف يذبح؟ فزعموا أن هذا يخالف صريح العقل
(3)
.
لذا ذهب بعضهم إلى الطعن في صحة الحديث ومن سلم بالحديث صرفه عن ظاهره حيث جعلوا هذا من باب التمثيل لا الحقيقية، وقال
(1)
سورة مريم، الآية:39.
(2)
رواه البخاري في كتاب التفسير، باب:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ح 4730 (8/ 282)، ومسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها ح 2849 (17/ 190).
(3)
قال شيخ الإسلام: "الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول" الفتاوى (2/ 312)، وانظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (2/ 578).
آخرون: أن هذا الذبح لمتولي الموت لا للموت نفسه.
والقرطبي رحمه الله ممن استشكل عليه هذا الحديث فالتمس له التأويل حيث قال في شرحه: "ظاهر هذا الحديث مستحيل وذلك أن العقلاء اتفقوا على أن الموت: إما عرض مخصوص، وإما نفي الحياة، ولم يذهب أحد إلى أنه من قبيل الجواهر وأيضًا: فإن المدرك من الموت والحياة إنما هما أمران متضادان متعاقبان على الجواهر كالحركة وكالسكون، وقد دل على ذلك من جهة السمع قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}
(1)
فهذا يبطل قول من قال من المعتزلة: إن الموت عدم الحياة لأن العدم لا يخلق ولا يوجب اختصاصًا للجواهر واستيفاء المباحث العقلية في علم الكلام وإذا تقرر ذلك استحال أن ينقلب الموت كبشًا لأن ذلك انقلاب الحقائق وهو محال وقد تأول الناس ذلك الخبر على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى خلق صورة كبش خلق فيها الموت فلما رآه أهل الجنة وأهل النار وعرفوه فعل الله فيه فعلًا يشبه الذبح أعدمه عند ذلك الفعل حتى يأمنه أهل الجنة فيزدادوا سرورًا إلى سرورهم وييأس منه أهل النار فيزدادوا حزنًا إلى حزنهم وعلى هذا يدل باقي الحديث، ولا إحالة في شيء من ذلك ولا بُعد.
والوجه الثاني: أن المراد بالحديث تمثيل عدم الموت على جهة التشبيه والاستعارة ووجهه: أن الموت لما عدم في حق هؤلاء صار بمثابة الكبش الذي يذبح فينعدم فعبَّر عنه بذلك وهذا فيه بُعْدُ وتحميل للكلام على ما لا يصلح له والوجه المعنى: الأول والله أعلم"
(2)
.
(1)
سورة الملك، الآية:2.
(2)
المفهم (7/ 190).
وكذا المازري أوَّل هذا الحديث فقال: الموت عرض من الأعراض عندنا يضادُّ الحياة وقال بعض المعتزلة: ليس بمعنى وهو يرجع إلى عدم الحياة وعلى المذهبين وإن كان الثاني منهما خطأ لقوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} فأثبت الموت مخلوقًا ولغير ذلك من الأدلة لا يصح أن يكون الموت كبشًا ولا جسمًا من الأجسام وإنما المراد التشبيه والتمثيل وقد يخلق الباري سبحانه هذا الجسم ثم يذبح ويجعل هذا مثالًا؛ لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة"
(1)
.
والصحيح أن ما أنكروه ليس بمحال إذ لا مانع أن ينشيء الله من الأعراض أجسادًا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث: "أن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان"
(2)
ونحو ذلك من الأحاديث
(3)
.
وهذا الحديث وأمثاله ينبغي أن نؤمن به ونترك الخوض في حقيقته ونعلم "أن الله تعالى على كل شيء قدير""وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون" فالعقول لا تحكم بمثل هذه المسائل وهي مسائل الغيب، والله تعالى أعلم.
(1)
المعلم (3/ 203).
(2)
رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ح 804 (6/ 337).
(3)
فتح الباري (11/ 429).