الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه.
ونعلم يقينًا مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه، ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا"
(1)
.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وينبغي للمؤولين أن يتأملوا آية من سورة الفرقان، وهي قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}
(2)
ويتأملوا معها قوله تعالى في سورة فاطر: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}
(3)
فإن قوله في الفرقان: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه لا يخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير نعم والله ليس بخبير
(4)
.
فالصواب في هذه المسألة ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات استواء الله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به"
(5)
.
صفة النزول:
النزول صفة فعلية جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين
(1)
العلو للذهبي ص (139).
(2)
سورة الفرقان، آية:59.
(3)
سورة فاطر، آية:14.
(4)
الأسماء والصفات نقلًا وعقلًا للشنقيطي ص (114).
(5)
الفتوى الحموية الكبرى ص (275).
يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له"
(1)
.
وقد آمن بها أهل السنة كما جاءت من غير تكييف لها، ولا تحريف، أو تأويل لمعناها.
قال الإمام الدارمي بعد أن ذكر ما يثبت النزول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها"
(2)
.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد: "باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة: نشهد شهادة مقرٍّ بلسانه، مصدقٍ بقلبه مستيقنٍ بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية، لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا؛ وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم.
فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول"
(3)
.
(1)
رواه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ح (1145)(3/ 35) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه ح (758)(6/ 282).
(2)
الرد على الجهمية، للدارمي ص (93).
(3)
كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 289).
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه
(1)
إلى الله"
(2)
.
وقال ابن عبد البر: "والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون"
(3)
.
هذا هو اعتقاد أهل السنة من السلف والخلف، لكن القرطبي والمازري خالفا في هذه المسألة كما خالفا في المسائل الأخرى، خصوصًا ما يتعلق بصفات الله تعالى الفعلية، فصرفوا هذه الصفة عن ظاهرها بتأويلات لا تليق حسب قواعدهم الفاسدة التي قعدوها لنفي صفات الله تعالى الفعلية كما سبق ذكره.
قال القرطبي عند شرحه للحديث السابق: "قوله: "ينزل ربنا" كذا صحت الرواية هنا، وهي ظاهرة في النزول المعنوي، وإليها يرد ينزل على أحد التأويلات، ومعنى ذلك: أن مقتضى عظمة الله تعالى وجلاله
(1)
أي علم كيفيته قال الشيخ الغنيمان: "يكلون علمه إلى الله" يعني: علم الكيفية لا يبحث فيها
لأن الكيفية تتوقف على المشاهدة والله تعالى لا يرى في الدنيا "كذا قول إسحاق بن راهوية "إنما ينزل بلا كيف" يعني بلا كيف يعلمه العباد وإلَّا ففي حقيقة الأمر له كيف يعلمه الله تعالى. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 252).
(2)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ع (191).
(3)
التمهيد (7/ 143).
واستغنائه ألا يعبأ بحقير ذليل فقير
(1)
، لكن ينزل بمقتضى كرمه ولطفه؛ لأن يقول:"من يقرضُ غير عدوم ولا ظلوم"
(2)
ويكون قوله "إلى السماء الدنيا" عبارة عن الحاجة القريبة إلينا، والدنيا بمعنى: القربى، والله أعلم. وقد قيَّده بعض الناس "يُنزلُ" بضم الياء من: أنزل فيكون معدى إلى مفعول محذوف أي: يُنزل اللهُ ملكًا فيقول: كذا، وأما رواية "ينزل" ثلاثيًا من نزل فهي صحيحة أيضا، وهي من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما قال:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
(3)
وقد دلَّ على صحة هذا التأويل ما رواه النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟ "
(4)
وهذا صحيح، وهو نصٌّ وبه يرتفع الإشكال"
(5)
وقال المازري: "معناه ينزل ملك ربنا وهو تقدير حذف المضاف كما يقال فعل السلطان كذا، وإن كان الفعل وقع من أتباعه ويضاف الفعل إليه لما كان عن أمره ويحتمل أن يكون عبر بالنزول عن تقريب الباري تعالى للداعين حينئذ واستجابته لهم، وخاطبهم صلى الله عليه وسلم بما جرت به عادتهم ليفهموا عنه، وكأن المتقرب منا إذا كان في بساط واحد مع من يريد الدنو منه عبر عن ذلك بأن يقال: جاء وأتى، وإذا كان في علو قيل: نزل
(1)
هذا وصف لجميع بني آدم.
(2)
هو جزء من حديث النزول الذي سبق تخريجه وهذه الزيادة عند مسلم.
(3)
سورة يوسف، آية:82.
(4)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى كتاب عمل اليوم والليلة (6/ 124) من رواية الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي وأبو إسحاق ثقة لكنه اختلط في آخر عمره، انظر تهذيب التهذيب (3/ 284) ولا يدرى أكانت رواية الأعمش عنه قبل إختلاطه أم بعده.
(5)
المفهم (2/ 386).
وتجلى، وقد ورد في الكتاب والسنة: جاء وأتى ونزل وتجلى"
(1)
.
يتبين من كلامهما في هذه المسألة مخالفة مذهب السلف وحيث أن الرواية صحيحة لا مجال للطعن فيها، فقد ذهب القرطبي إلى البحث عن رواية أخرى توافق مذهبه في التأويل، أو تساعده على ذلك ليحمل الروايات الصحيحة عليها، ولا شك أن هذا تكلف مخالف للأصول، وقد جعل القرطبي تلك الرواية التي جاء فيها:"إن الله يأمر مناديًا ينادي" هي الأصل وحمل الروايات الأخرى الصحيحة عليها مع أن في ثبوتها نظرًا، وظاهرها مخالف للروايات المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي هو رب العالمين مع أنه يجوز أن الله تعالى مع قوله ذلك يأمر من ينادي ولكن الملك إذا نادى عن الله تعالى لا يتكلم بصيغة المخاطب بل يقول: إن الله أمر بكذا، أوقال كذا، ولا إشكال في هذه الرواية مع الروايات الأخرى كما زعم القرطبي، إنما الإشكال جاء من تأويل النصوص وصرفها عما يراد بها
(2)
.
وأما ضبط "يُنزل" بضم أوله، فهذا من تحريف المبتدعة للفظ الحديث ليتفق مع مذهبهم في نفي نزول الله تعالى، ولم يرد ذلك في شيء من روايات الحديث الصحيحة.
وأما القول بأن هذا النزول نزول معنوي، فهو صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل، ولا مبرر، بل الأدلة بضده فهي صريحة في نزول الله
(1)
المعلم (1/ 303).
(2)
قال الشيخ الغنيمان عن قول القرطبي هذا: زعم القرطبي أنَّ هذا يزيل الإشكال ونحن نقول لهؤلاء: إن الإشكال لازم لمذهبكم، ولن ينفك عنه، ولن تجدوا ما يؤيده وإن أجهدتم أنفسكم، فهذه الرواية لا تخالف اللفظ الصريح الواضح الذي ضيق خناقكم. انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (2/ 259).
تعالى كما يليق به سبحانه.
ومن العجب تأويل قوله: "إلى السماء الدنيا" مع وضوحها بأن هذا عبارة عن الحاجة القريبة، ولم يأت بدليل على ما ذهب إليه سوى أن الدنيا بمعنى: القربى، وهذا معلوم إذ السماء الدنيا سميت بذلك لأنها أقرب السموات السبع إلينا، فليس في هذا دليل على ما ذهب إليه.
وأما قولهم: أن "ينزلُ الله" من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقول المازري أن هذا ملك ربنا واستدلاله على ذلك بقولهم فعل السلطان كذا وقد فعل أتباعه
(1)
.
والحاصل أن هذا تأول بنزول ملك وهو المنادي أو قولهم كذلك: إن هذا استعارة بمعنى التلطف بالداعين والاستجابة لهم، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التأويل فقال: "نزول الملائكة إلى الأرض في كل وقت وهذا خص النزول بجوف الليل وجعل منتهاه سماء الدنيا والملائكة لا يختص نزولهم لا بهذا الزمان ولا بهذا المكان، وإن أريد صفات وأعراض مثل ما يحصل في قلوب العابدين وقت السحر من الرقة والتضرع وحلاوة العبادة ونحو ذلك، فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا.
وأيضًا في الحديث الصحيح أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يقول: "لا أسأل عن عبادي غيري"
(2)
ومعلوم أن هذا كلام الله الذي لا يقوله غيره، وكذلك قال: "ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني
(1)
قال أبو الفراء الحنبلي: لا يصح حمله على الملائكة كما إذا قيل: نزل الملك ببلد كذا لا يعقل منه نزول أصحابه، إبطال التأويلات (1/ 264).
(2)
رواه أحمد في المسند (4/ 16) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 229).
فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر"
(1)
ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء ويغفر الذنوب ويعطي كل سائل سؤاله إلَّا الله
(2)
.
وهذا يبطل هذه التأويلات المذكورة ويثبت مذهب السلف في ذلك الذي هو الإيمان بالنزول تصديقًا للنصوص وترك الكيفية التي لا يعلمها الله سبحانه وتعالى.
قال الإمام أبو يعلى عن هذا الحديث: "اعلم أن هذا حديث صحيح يجب الأخذ بظاهره من غير تأويل ولا يجب أن يستوحش من إطلاق مثل ذلك"
(3)
.
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: "قد اتفق سلف الأمة وأئمتها في كل زمان على الإيمان بهذا الحديثما وتلقيه بالقبول كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قاله علانية وبلغه الأمة تبليغًا عامًّا لم يخص به واحدًا دون الآخرين، وكان الصحابة وأتباعهم يذكرونه ويروونه ويبلغونه تبليغًا عامًّا ولهذا ثبت في عامة كتب الإسلام، فمن أنكره أو زعم أنه لا يجوز ذكره عند عامة الناس، أو تأوله على غير ظاهره فهو ضال سالك غير سبيل المؤمنين في ذلك، ومن زعم أنه يدل على ما يجب أن ينزه الله عنه من النقص المنافي لكماله، فقد أُتى من فهمه الخاطئ وسوء ظنه بالله العظيم، فإن وصف الله تعالى بالنزول كوصفه بغيره من الصفات
…
ومن قال: إن الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم المشبهة، يقال له: بل الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم الصحابة عمومًا وأتباعهم إلى يوم الدين، ولا تستطيع أن تأتي
(1)
سبق تخريجه ص (562).
(2)
الفتاوى (5/ 415، 416). بتصرف.
(3)
إبطال التأويلات (1/ 259).