الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
(1)
. قيل: معناه بمصدق لنا إلَّا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمْنُ"
(2)
.
وقد رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الإيمان اللغوي: أنه بمعنى الإقرار لأنه رأى لفظة أقر أصدق في الدلالة على معنى الإيمان من غيرها من الألفاظ، حيث قال: "فالإيمان لغة: هو الإقرار؛ لأن التصديق، إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر. ولأن أقر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار دخول في القرار
…
ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق. والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو الانقياد"
(3)
.
وأمَّا القرطبي فعرَّفه بالتصديق حيث قال: "الإيمان لغة: هو التصديق مطلقًا"
(4)
.
وأمَّا المازري فعرَّفه باليقين حيث قال: "الإيمان هو اليقين"
(5)
.
المطلب الثاني: تعريفه شرعًا:
أما تعريف الإيمان شرعًا: فهو ما وقع فيه الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم منذ زمن مبكر.
قال ابن رجب
(6)
: "وهذه المسائل - أعني مسائل الإسلام والإيمان
(1)
سورة يوسف، الآية:17.
(2)
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص (36) مادة أمن.
(3)
الفتاوى لابن تيمية (7/ 637، 638).
(4)
المفهم (1/ 139).
(5)
المعلم (1/ 210).
(6)
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي، إمام في العلم والعبادة، له عدة مؤلفات منها "شرح علل الترمذي" وشرح لصحيح البخاري، سماه "فتح الباري" توفي قبل =
والكفر والنفاق - مسائل عظيمة جدًّا، فإن الله عز وجل علَّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة"
(1)
.
لهذا الخلاف المذكور تعددت الأقوال في تعريف الإيمان، والحق منها ما عليه أهل السنة والجماعة إذ عرفوه بأنه قولٌ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعملٌ بالجوارح
(2)
.
وأما الأقوال الأخرى، فهي تختلف قربًا وبعدًا من الحق، وهي على النحو التالي:
الأول: الإيمان: هو التصديق بالجنان، والقول باللسان. وهذا مشهور عن بعض الفقهاء، ولذا يقال:"إرجاء الفقهاء" وقال به: حماد بن أبي سليمان
(3)
، وأبو حنيفة وأصحابه
(4)
.
الثاني: الإيمان: هو التصديق بالله مع معرفته بالقلب. وهذا قول عامة الأشاعرة
(5)
.
الثالث: الإيمان: فعل جميع الطاعات المفترضة بالقلب واللسان والجوارح وهذا قول الخوارج والمعتزلة
(6)
.
= إكماله، توفي بدمشق سنة (795 هـ). الدر الكامنة (2/ 321). طبقات الحفاظ ص (567) ترجمة (1172).
(1)
جامع العلوم والحكم ص (38).
(2)
انظر: الشريعة للآجري (2/ 611)، وشرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/ 911) ومسائل الإيمان لأبي يعلى بن الفراء ص (152).
(3)
حماد بن أبي سليمان، تابعي رمي بالإرجاء تتلمذ عليه الإمام أبو حنيفة ولازمه توفي سنة (120 هـ). سير أعلام النجلاء (5/ 231). طبقات الحفاظ ص (60) ترجمة (105).
(4)
انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 219)، والفتاوى لابن تيمية (7/ 507).
(5)
انظر: اللمع لأبي الحسن الأشعري ص (122)، والإنصاف للباقلاني ص (55).
(6)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 149، 329)، والملل والنحل (1/ 45).
وهم يخالفون أهل السنة أنهم جعلوا جميع الأعمال شرطًا لصحة الإيمان، فالإيمان كلٌّ لا يتجزأ، فإذا ذهب بعضه ذهب كلُّه، فمن أخل بالأعمال عندهم ذهب إيمانه، وهو عند الخوارج كافر في الدنيا، مخلدٌ في النار في الآخرة، وعند المعتزلة في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، ووافقوا الخوارج في خلوده في النار في الآخرة، وفي نفي اسم الإيمان عنه في الدنيا، وخالفوهم في إطلاق لفظ الكفر عليه في الدنيا، وفي استحلال دمه وماله.
الرابع: هو المعرفة بالقلب فقط. وهذا قول الجهمية
(1)
، ويلزم من قولهم هذا إدخال إبليس وفرعون في الإيمان.
الخامس: الإيمان هو الإقرار باللسان دون القلب. وهذا قول الكرَّامية
(2)
. ويلزم من هذا القول إدخال المنافقين في الإيمان.
قال القرطبي في بيان فساد هذا القول: "الإيمان من أعمال الباطن، والإسلام من أعمال الجوارح الظاهرة، وفيه ردٌّ على غلاة المرجئة والكرامية، حيث حكموا بصحة الإيمان لمن نطق بالشهادتين، وإن لم يعتقد بقلبه، وهو قولٌ باطلٌ قطعًا، لأنه تسويغ للنفاق"
(3)
.
وقال المازري ردًّا عليهم عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله؟ قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه. قال: لا يشهد أحدٌ أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تَطْعَمَهُ"
(4)
: "إن احتجت به الغلاة من المرجئة في أن الشهادتين تنفع وإن لم تعتقد
(1)
انظر: الملل والنحل (1/ 88)، والفتاوى لابن تيمية (7/ 508).
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 223)، والفتاوى لابن تيمية (7/ 509).
(3)
المفهم (1/ 366) وانظر أيضًا (1/ 204).
(4)
رواه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا ح/ 33 (1/ 356).
بالقلب، قيل لهم: معناه أنه لم يصح عند النبي صلى الله عليه وسلم ما حكوا عنه من أن ذلك ليس في قلبه، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يقل ذلك ولم يشهد به عليه"
(1)
.
قال القرطبى في تعريفه للإيمان شرعًا: "هو التصديق بالقواعد الشرعية"
(2)
.
وقال: "الإسلام والإيمان بحكم الوضع يعمان كل انقياد وكل تصديق، لكن قصرها الشرع على تصديق مخصوص، وانقياد مخصوص"
(3)
.
وقال: "الإيمان بالله هو التصديق بوجوده تعالى، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه موصوف بصفات الجلال والكمال"، ثم بعد ذكره لأركان الإيمان قال:"مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف أن من صدق بهذه الأمور تصديقًا جزمًا لا ريب فيه ولا تردد ولا توقف كان مؤمنًا حقيقة"
(4)
.
فالقرطبي خالف مذهب أهل السنة والجماعة في تعريفهم للإيمان إذ جعله التصديق فقط، وأخرج الأعمال من الإيمان، وجعل إطلاق الإيمان على الأعمال ودخولها فيه من باب المجاز.
فبعد ذكره لحديث جبريل عليه السلام
(5)
وحديث وفد عبد القيس،
(1)
المعلم (1/ 195).
(2)
المفهم (1/ 139).
(3)
المفهم (1/ 140).
(4)
المفهم (1/ 145).
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة ح/ 50 (1/ 140)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإيمان =
وحديث علي رضي الله عنه الذي قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان اعتقاد بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالأركان"
(1)
قال: هذه الإطلاقات الثلاث من باب التجوز والتوسع، على عادة العرب في ذلك، وهذا إذا حقق يريح من كثير من الإشكال الناشيء من ذلك الاستعمال
(2)
.
وقال عند شرحه لحديث "الإيمان بضْعٌ وستُّون شعبة، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان"
(3)
: "الإيمان في هذا الحديث يُراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول لا إله إلَّا الله وأدناها: أي: أقربها وهو إماطة الأذى وهما عملان فما بينهما من قبيل الأعمال، وقد قدمنا القول في حقيقة الإيمان شرعًا ولغة، وأن الأعمال الشرعية تسمى إيمانًا مجازًا وتوسعًا؛ لأنها عن الإيمان تكون غالبًا"
(4)
.
حتى أعمال القلوب أدخلها في مسمى الإيمان مجازًا، حيث قال: "إطلاق الإيمان على أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف،
= والإسلام والإحسان ح/ 8، (1/ 259).
(1)
حديث موضوع قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم. الموضوعات (1/ 128)، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر الحديث: من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم بحديثه، الفتاوى (7/ 505) وقال ابن القيم: هذا حديث موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. تهذيب سنن أبي داود (12/ 295). وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (5/ 295) حديث (2271).
(2)
المفهم (1/ 140).
(3)
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب أمور الإيمان ح/ 9 (1/ 67). ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان ح/ 35 (2/ 362) وفي رواية عند مسلم قال: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلَّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (2/ 363).
(4)
المفهم (1/ 216).
والنصيحة، وشبه ذلك من أعمال القلوب، وتسميتها إيمانًا لكونها في محل الإيمان أو عن الإيمان، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره أو كان منه بسبب"
(1)
.
وكذلك المازري عرَّف الإيمان بأنه اليقين، حيث قال:"الإيمان هو اليقين"
(2)
.
وفي حديث وفد عبد القيس قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المَغْنَمِ الخُمْس"
(3)
.
فعند شرح المازري لهذا الحديث أخرج الأعمال من الإيمان، حيث قال:"ظن بعض الفقهاء أن في هذا دلالة على أن الصلاة والزكاة من الإيمان، خلافًا للمتكلمين من الأشعرية القائلين بأن ذلك ليس من الإيمان، وهذا الذي ظنه غير صحيح لاحتمال أن يكون الضمير في قوله: ثم فسرها لهم، عائدًا على الأربع لا على الإيمان كما ظن هذا الظان، ويحتمل في الحديث الثاني من أن يكون قوله "وإقام الصلاة" محطوفًا أيضًا على الأربع"
(4)
.
وأوَّل كل ما جاء في إطلاق الإيمان على الأعمال فقال عند شرحه
(1)
المفهم (1/ 442).
(2)
المعلم (1/ 210).
(3)
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان ح/ 53 (1/ 157)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه لمن لم يبلغه ح/ 17 (1/ 294).
(4)
المعلم (1/ 191).
لحديث "الحياء من الإيمان"
(1)
.
"إنما كان الحياء - وهو في الأكثر غريزة - من الإيمان الذي هو اكتساب؛ لأن الحياء يمنع من المعصية، كما يمنع الإيمان منه"
(2)
.
وعند شرحه لحديث: "الطُّهُور شطرُ الإيمان"
(3)
. قال: "يحتمل هذا الحديث وجهين: أحدهما: أن يكون المراد بقوله "شطر الإيمان" أي أنه ينتهي تضعيف الأجر فيه إلى أجر الإيمان من غير تضعيف، وهذا كأحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قل هو الله أحد تعدلُ ثُلُث القُرآن"
(4)
. والوجه الثاني: أن يكون معنى شطر الإيمان: أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله من الآثار، وقد أخبر عليه السلام أن الوضوء أيضًا تذهب عن الإنسان به الخطايا؛ إلَّا أنه قد قام الدليل أن الوضوء لا يصح الانتفاع به، إلَّا مع مضامة الإيمان له، فكأنه لم يحصل به رفع الإثم إلَّا مع شيء ثان. ولما كان الإيمان يمحو الآثام المتقدمة عليه بانفراده صار الطهور في التشبيه كأنه على الشطر منه"
(5)
.
ولا شك أن المذهب الحق ما قاله جماهير العلماء من أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعملٌ بالجوارح.
قال البغوي: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان
…
وقالوا إن الإيمان قولٌ وعملٌ
(1)
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب الحياء من الإيمان ح (124، 1/ 93). ومسلم في كتاب الإيمان باب عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان ح (36، 2/ 364).
(2)
المعلم (1/ 196).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب فضل الوضوء ح/ 223، (3/ 101).
(4)
رواه ابن ماجة في كتاب الأدب باب ثواب القرآن، والترمذي في أبواب فضائل القرآن باب ما جاء في سورة الإخلاص، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (2/ 316).
(5)
المعلم (1/ 232).
وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"
(1)
.
وقال الآجري
(2)
: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح"
(3)
.
وذكر اللالكائي
(4)
روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، والسلف الصالح في هذا الباب
(5)
.
وقال البخاري: "كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلَّا عن من قال الإيمان: قول وعمل"
(6)
.
وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ولا عمل إلَّا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان"
(7)
.
ولذا أصبح هذا القول من سمات أهل السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان القول: إن الإيمان قول وعمل عند أهل السنة من شعائر السنة وحكى غير واحد الإجماع على
(1)
شرح السنة للبغوي (1/ 44).
(2)
أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الإمام المحدث صاحب سنة واتباع له عدة مصنفات توفي سنة (360 هـ). طبقات الحفاظ ص (395) ترجمة (858)، وصفة الصفوة (2/ 470).
(3)
الشريعة للآجري (2/ 611).
(4)
هبة الله بن الحسن اللالكائي الحافظ له عدة مصنفات أشهرها وأنفعها كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" توفي سنة (418 هـ) سير أعلام النبلاء (17/ 419). طبقات الحفاظ ص (438) ترجمة (953).
(5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 911) فما بعدها.
(6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 959).
(7)
التمهيد لابن عبد البر (9/ 238).
ذلك"
(1)
.
واستدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة من الكتاب والسنة، منها:
من الكتاب:
(2)
.
- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
(3)
.
وثبت في صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا قبل أن تحوَّل القبلة
(4)
، والمقصود ما كان الله ليضيع صلاتكم، فسمى الصلاة إيمانًا.
- وقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} إلى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}
(5)
.
قال القاسم بن سلَّام
(6)
- بعد ذكره لهذه الآيات -: "أفلست تراه
(1)
الإيمان لابن تيمية ص (241) وانظر ص (242) فقد نقل عن القاسم بن سلَّام أسماء كثير من الذين يقولون الإيمان قول وعمل.
(2)
سورة الأنفال، الآيات: 2 - 4.
(3)
سورة البقرة، الآية:143.
(4)
صحيح البخاري "كتاب الإيمان" باب الصلاة من الإيمان ح/ 40، (1/ 118).
(5)
سورة العنكبوت، الآيات: 1 - 10.
(6)
هو القاسم بن سلَّام البغدادي أبو عبيد الإمام الشهير توفي سنة (224 هـ). صفة =
تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يكتف منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر"
(1)
.
وأما من السنة فأحاديث كثيرة منها: حديث وفد عبد القيس
(2)
.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضعٌ وسبعُون أو بضعُ وستُّون شعبة فأفضلها قول لا إله إلَّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبةٌ من الإيمان"
(3)
.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شطرُ الإيمان"
(4)
. وغيرها من الأدلة.
وبهذا يتبين لنا أن ما ذهب إليه السلف هو الحق الذي أيَّدته النُّصوص من الكتاب والسنة.
سُئِلَ سهل بن عبد الله التستري
(5)
عن الإيمان ما هو؟ فقال: "قول ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولًا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولًا وعملًا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولًا وعملًا ونية بلا سنة فهو بدعة"
(6)
.
وأما ما استدل به المرجئة من الأشاعرة وغيرهم، فهو كما يلي:
أولًا: أن الإيمان في اللغة هو التصديق، وقد أبقاه الشرع على ما كان، وما روي نقله. وذكر الباقلاني
(7)
الإجماع على ذلك، حيث قال:
= الصفوة (4/ 130)، تهذيب التهذيب (3/ 410).
(1)
الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص (66).
(2)
سبق تخريجه ص (139).
(3)
سبق تخريجه ص (140).
(4)
سبق تخريجه ص (140).
(5)
سهل بن عبد الله التستري الزاهد العابد محدث له كتاب في ذم الكلام توفي سنة (283 هـ). صفة الصفوة (4/ 64)، طبقات الصوفية للسلمي ص (206).
(6)
الفتاوى لابن تيمية (7/ 171).
(7)
هو أبو بكر محمد بن الطيب البغدادي المشهور بالباقلاني متكلم أشعري مكثر من التصنيف توفي في بغداد سنة (403 هـ). البداية والنهاية (11/ 373)، الديباج المذهب ص (363).
فإن قالوا: فأخبرونا ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب! فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق. لا يعرفون في اللغة إيمانًا غير ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}
(1)
أي بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، أي: لا يصدق بذلك، فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة؛ لأن الله ما غير اللسان العربي ولا قلبه"
(2)
.
ثانيًا: ما ورد من آيات وأحاديث تدل على أن الإيمان في القلب كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}
(3)
. وقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: "أفلا شَقَقْتَ عن قَلْبِهِ"
(4)
.
ثالثًا: إن الله فرَّق بين الإيمَان والعمل في أكثر من موضع، منها قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
(5)
. والعطف يقتضي المغايرة.
قال شيخ الإسلام في الرد عليهم بعد نقله لكلام الباقلَّاني السابق: "هذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان، وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة.
(1)
سورة يوسف، الآية:17.
(2)
التمهيد للباقلاني ص (389)، وانظر: الإنصاف للباقلاني ص (55)، والفتاوى لابن تيمية (7/ 122).
(3)
سورة النحل، الآية:106.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلَّا الله، ح/ 96، (2/ 462).
(5)
سوة العصر، الآية:3.
أحدهما: قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره.
الثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والفرْجُ يُصدِّقُ ذلك أو يُكذِّبهُ"
(1)
.
والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق بل هو تصديق خاص مقيَّد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلًا للفظ، ولا تغييرًا له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبيَّنه.
والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ونقول: أن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى.
الخامس: قول من يقول: إن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكامًا.
السادس: قول من يقول: إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي.
السابع: قول من يقول: إنه منقول. فهذه سبعة أقوال:
الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق بل بمعنى الإقرار وغيره.
قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب زنا الجوارح دون الفرج ح/ 6243 (11/ 28)، ومسلم في كتاب القدر باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره ح/ 2657، (16/ 445).
وفي أي كتاب ذُكِرَ هذا الإجماع؟ .
الثاني: أن يُقال: أتعني بأهل اللغة، نقلتها، كأبي عمرو
(1)
، والأصمعي
(2)
، والخليل
(3)
، ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر، وكلام العرب، وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلًا عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحدٌ عنهم ذلك.
الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد واثنان فليس هذا إجماعًا.
الرابع: أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلامًا عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أُريد به معنى لم يرده، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
(1)
هو أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي المقريء كان من أعلم الناس بالقرآن والعربية والشعر، توفي سنة (154 هـ). سير أعلام النبلاء (6/ 407)، تهذيب التهذيب (4/ 561).
(2)
عبد الملك بن قريب الباهلي المعرف بالأصمعي أديب لغوي، نحوي، أصولي، له عدة مصنفات، منها:"نوادر الأعراب"، "الأصمعيات" وغيرها، توفي بالبصرة سنة (216 هـ). تاريخ دمشق (37/ 55)، تهذيب التهذيب (2/ 622).
(3)
هو الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري إمام مقدم في العربية، وهو منشيء علم العروض توفي سنة (170 هـ). تهذيب التهذيب (1/ 552). البداية والنهاية (10/ 166).
الخامس: أنه لو قُدِّر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن إنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق
(1)
؟
السادس: أنه لم يذكر شاهدًا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بعذاب القبر، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، ومن قال ذلك فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلَّا لو صدق بأنه يعذب في قبره ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلًا لم يسموه مؤمنًا به، كما لا يسمون إبليس مؤمنًا بالله، وإن كان مصدقًا بوجوده وربوبيته. وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}
(2)
ليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر. ولو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء بل بشيء مخصوص، فيكون الإيمان في كلام الشارع أخصَّ من الإيمان في اللغة"
(3)
.
وأما استدلالهم الثاني، فهذه النصوص التي ذكروها لا تنفي وجود الإيمان في غير القلب، وقد جاءت نصوص أخرى تدل على أن الإيمان باللسان والجوارح أيضًا.
(1)
الفتاوى (7/ 122، 123، 124).
(2)
سورة يوسف، الآية:17.
(3)
الفتاوى (7/ 125، 126) بتصرف.
وأما قولهم أن الله فرق بين الإيمان والعمل، فعطف العمل على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة.
فيقال: إن العطف بين شيئين يعني نوع مغايرة كالمغايرة بين الكل والجزء والخاص والعام والمطلق والمقيد، فيجوز عطف الأعمال على الإيمان؛ لأن الإيمان كلٌّ والأعمال جزءُ منه فيكون من باب عطف الخاص على العام كما قال تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
(1)
.
ومن المعلوم قطعًا أن جبريل وميكال من جنس الملائكة وكقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
(2)
وغيرها
(3)
، فاستدلالهم بالعطف على إخراج الأعمال لا يسلم لهم.
وأمَّا قولهم إن تسمية الأعمال إيمانًا من باب المجاز، فقد رد عليهم في ذلك شيخ الإسلام بكلامٍ يطول ذكره، أذكر منه قوله: "إن القول بالمجاز كلامٌ مبتدع لم يتكلم به السلف من الصحابة والتابعين، بل ولا أحد الأئمة المشهورين بالعلم كمالك والثوري
(4)
، والأوزاعي
(5)
، وأبي حنيفة، والشافعي، بل ولا تكلم به أئمة اللغة كالخليل وسيبويه
(6)
، وأبي
(1)
سورة البقرة، الآية:98.
(2)
سورة البقرة، الآية:238.
(3)
انظر مسائل الإيمان لأبي يعلى ص (241) والفتاوى لابن تيمية (7/ 179).
(4)
هو سفيان بن سعد بن مسروق الثوري، ثقة، حافظ، فقيه، من أعلام القرن الثاني، ورعًا، فقيهًا، زاهدًا، توفي سنة (161 هـ). حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهانيّ (6/ 356)، تهذيب التهذيب (2/ 56).
(5)
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام وأحد الأئمة الأعلام المشهورين توفي سنة (157 هـ). حلية الأولياء (6/ 135)، صفة الصفوة (4/ 255).
(6)
هو عمرو بن عثمان الملقب بسيبويه، إمام النحو المقدم فيه، طلب الفقه والحديث في بداية =