الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام النفسي:
القرطبي وافق الأشاعرة في قولهم في صفة الكلام، وأنه كلام نفسي ليس بحرف ولا صوت. فعند حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي قال فيه:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلَّا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال: لا إله إلَّا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"
(1)
.
قال القرطبي: "قوله: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ ، أي: أقالها بقلبه، وتكلم بها مع نفسه، ففيه دليل لأهل السنة على أن حديث النفس كلام وقول، فهو رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وأهل البدع"
(2)
.
قلت: هذا ليس قولًا لأهل السنة، بل للأشاعرة المخالفين لأهل السنة في هذه المسألة، وليس في هذا دليل لهم بل عليهم؛ لأن هذا الرجل تكلم بهذه الكلمة، ونطق بها بلسانه، فالمنكر والمسؤول عنه هل اعتقد بقلبه معناها أم أن هذا القول على سبيل الكذب والتمويه، خوفًا من السلاح؟ .
قال شيخ الإسلام: "مما لا نزاع فيه أن القول والحديث ونحوهما مع التقييد يضاف إلى النفس والقلب، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به
(1)
سبق تخريجه ص (144).
(2)
المفهم (1/ 296).
أو تعمل"
(1)
لكن النزاع في شيئين: أحدهما: أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس أو قلب أو نحو ذلك هل هو اسم لمجرد المعنى أو لمجرد الحروف أو لمجموع المعاني والحروف؟ والذي عليه السلف والفقهاء والجمهور أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعًا، وقيل: بل مسماه هو اللفظ، والمعنى ليس جزءًا من مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول كثير من المعتزلة وغيرهم وطائفة من المنتسبين للسنة وقيل: بل مسماه هو المعنى وإطلاق الكلام عليه مجازٌ؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن تبعه"
(2)
.
وقال أيضًا: "إذا قيد القول بالنفس كانت دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل"
(3)
.
وهذا ردٌّ عليهم مطلقًا لأنه قال: "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق
(4)
.
أما قول العربي: "كان في نفسي كلام" ونحو ذلك، فلا يُخالفُ في صحته لكن ليس على مراد الأشعرية، إنما على مراد أهل السنة من كون لفظ "الكلام" إذا جاء مقيَّدًا كان التقييد قرينة دالة على إخراجه من إطلاقه حيث قد تُراد به المعاني أو الألفاظ بالقرائن، فلما قيَّده العربي ههُنَا
(1)
رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان ح (6664)(11/ 557) ومسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس ح (127)(2/ 506).
(2)
انظر: الفتاوى (7/ 134 - 136).
(3)
سبق تخريجه ص (481).
(4)
انظر: الفتاوى (7/ 133).
بالنفس أخرجه من مطلق الكلام فكيف تحتج الأشاعرة بما هو مجاز على قواعدهم لتقرير ما هو الحقيقة؟ وذلك أنهم يقولون: ما تصرفه القرائن عن حقيقته إنما هو مجاز
(1)
.
فأهل السنة يرون أن إثبات الكلام النفسي هو إضافة نقص إلى الله تعالى إذ أن الأخرس له خواطر يريد أن يتكلم بها، ولكنه مع ذلك لا يستطيع، فالله سبحانه وتعالى منزَّه عن مثل هذا العجز، الذي يعتبر نقصًا في المخلوق، والله تبارك وتعالى منزه عن كل نقض، بل أولى بالتنزه عن ذلك النقص من المخلوق، فهو سبحانه متصف بصفات الكمال، ومتكلم بمشيئته وقدرته وإرادته متى شاء وكيف شاء"
(2)
.
ثم نعلم جميعًا أن المتكلم بالألفاظ والمعاني أكمل ممن يقوم المعنى في نفسه، وهو لا يقدر على التعبير عنه وهذا إن وجد في المخلوق الضعيف كان نقصًا بيِّنًا فكيف تصفون الله بأن كلامه هو المعنى الذي يكون في نفسه، وأن الله عز وجل يفهمه من شاء من خلقه، كما أفهمه جبريل، وجبريل يكون - على قولكم هذا - أكمل من الله؛ لأنه فهم المعنى، وأمكنه التعبير عنه، تعالى الله عن قولكم علوًّا كبيرًا، بل أي فرق بين الله وبين الآلهة التي لا ترجع إلى عابديها قولًا؟ "
(3)
.
"فالذين قالوا بهذا القول لم يتصوروا ماهيته وعجزوا عن بيانه بتعريف منضبط"
(4)
قال شيخ الإسلام: "الكلام النفساني الذي أثبتُّموه لم تثبتوا ما هو؟
(1)
العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبد الله بن يوسف الجديع ص (351، 352).
(2)
البيهقي وموقفه من الإلهيات للدكتور أحمد عطية الزهراني ص (200).
(3)
العقيدة السلفية في كلام رب البرية، للجديع ص (367، 368) بتصرف.
(4)
المرجع السابق ص (367).