الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم لا يسلم لهم أن هناك تركيبًا من أجزاء بحال، وإنما هي ذات قائمة بنفسها مستلزمة للوازمها التي لا يصح وجوده إلَّا بها، وليست صفة الموصوف أجزاء له ولا أبعاضًا يتميز بعضها عن بعض، أو تتميز عنه حتى يصح أن يقال هي مركبة منه أو ليست مركبة. أنه لو فرض أن هذا يسمى مركبًا فليس مستلزمًا للإمكان، ولا للحدوث، ولا للافتقار، وذلك أنه علم بالعقل والسمع أنه يمتنع أن يكون الرب تعالى فقيرًا إلى خلقه، بل هو الغني عن العالمين فهو سبحانه غني بنفسه، ليس ثبوته وغناه مستفادا من غيره، إنما هو بنفسه، لم يزل ولا يزال حقًّا صمدًا قيومًا، فالقول في صفاته التي هي داخلة في مسمى نفسه هو القول في نفسه
(1)
.
ثم لا يتصورُ عاقل في حق الله تعالى خالق المفرد والمركب الذي يجمع المتفرق ويؤلف بين الأجزاء فيركبها كما يشاء أن يكون اتصافه بالصفات التي وصف بها نفسه يؤدي إلى التركيب! كالإنسان المركب من الأجزاء التي يحتاج بعضها إلى بعض، إن هذا قياس باطل عقلًا وشرعًا، وهو بهتان ومكابرة للعقل الذي يدل على إثبات إله واحد لا شريك له، ولا شبيه له، ولا يتصور عقلًا أن يكون هذا الرب الواحد لا صفة له ولا وجه ولا يدين، ولا هو فوق خلقه فدعوى أن هذا يؤدي إلى التركيب دعوى باطلة، وكذب صريح على العقل والوحي (
2).
2 -
الجسم:
لفظ الجسم من الألفاظ المبتدعة التي لم تأت في الكتاب ولا السنة، ولا تكلم بها أحدٌ من الصحابة أو التابعين.
(1)
انظر: نقض أساس التقديس لابن تيمية (1/ 605 ، 607) ومنهاج السنة لابن تيمية (2/ 541).
(2)
انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (3/ 945، 947).
"فلما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في الجسم، وفي إدخال لفظ الجسم في أصول الدين، وفي التوحيد، وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة، فصار الناس في لفظ الجسم على ثلاثة أقوال: طائفة تقول إنه جسم، وطائفة تقول ليس بجسم، وطائفة تمسك عن إطلاقه نفيًّا أو إثباتًا، وهذا لكونه بدعة في الشرع، أو لكونه في العقل يتناول حقًّا وباطلًا، فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك، ومنهم من يستفصل المتكلم، فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحًا قبله، وعبَّر عنه بعبارة شرعية، ولا يعبر عنها بعبارة مبتدعة في الشرع، وإن ذكر معنى باطلًا ردَّه، وذلك أن لفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعانيه المصطلح عليها، وفي المعنى مصطلحات عقلية فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحاتهم وحسب اعتقاداتهم"
(1)
.
"فيقال لمن أطلقه: ما أردت بالجسم؟ فإن قال: أردت الجسم الذي معناه في لغة العرب البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فهذا المعنى منفي عن الله تعالى عقلًا وسمعًا"
(2)
.
"وإن قال: أردت بالجسم ما كان مركبًا من الجواهر الفردة أو المادة والصورة، وأن هذا يقتضي أن يكون تجسيمًا والأجسام متماثلة. قيل له: أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إن الهواء مثل الماء، ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون جسمًا مماثلًا لخلقه إذا أثبتوا له ما ورد في صحيح المنقول من صفاته تعالى"
(3)
.
(1)
منهاج السنة لابن تيمية (2/ 198).
(2)
الصواعق المرسلة لابن القيم (3/ 939).
(3)
انظر: الفتاوى لابن تيمية (17/ 317، 318).
وإن قال: أردت بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه تعالى بتسميتك للموصوف بها جسمًا، كما أننا لا نسُبُّ الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب، ولا نرد خبر الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية! ! ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك جسمًا مشبهًا! !
فإن كان تجسيمًا ثبوت استوائه
…
على عرشه إني إذًا لمجسم
وإن كان تشبيهًا ثبوت صفاته
…
فمن ذلك التشبيه لا أتكتم
وإن كان تنزيهًا جحود استوائه
…
وأوصافه أو كونه يتكلم
فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا
…
بتوفيقه والله أعلى وأعظم
(1)
وإن أردت بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية، فقد أشار أعرف الخلق بأصبعه رافعًا إلى السماء بمشهد الجمع العظيم مستشهدًا له لا للقبلة.
وإن أردت بالجسم ما يقال: أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين منبهًا على علوه على عرشه، وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل هذا السؤال إنما يكون للجسم.
وإن أردت بالجسم ما يلحقه من وإلى، فقد نزل جبريل عليه السلام من عنده، وعرج برسوله صلى الله عليه وسلم إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب وعبده المسيح رفع إليه.
(1)
هذه الأبيات لابن القيم رحمه الله. انظر: الصواعق المرسلة (3/ 940).