الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعرض الله عنه"
(1)
. وأهل السنة يثبتون هذه صفة لله تعالى كما جاءت من غير صرف لها عن ظاهرها، بل نقول كما يليق بالله سبحانه وتعالى.
وقد أوَّل القرطبي هذه الصفة وصرفها عن ظاهرها فقال عند شرحه للحديث الأول: "إن كان هذا المعرض منافقًا فإعراض الله عنه تعذيبه في نار جهنم وتخليده فيها في الدرك الأسفل منها، وأما إن كان مسلمًا -وإنما انصرف عن الحلقة لعارض عرض له فآثره- فإعراض الله تعالى عنه: منع ثوابه عنه وحرمانه مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم والاستفادة منه، والخير الذي حصل لصاحبيه"
(2)
.
وقال في شرحه للحديث الآخر: "أي يعامله معاملة المعرض عنه فلا يثيبه"
(3)
.
وهذا تأويل للصفة سار فيه القرطبي على مذهب الأشاعرة في التأويل. والحق إثبات هذه الصفة لله تعالى كما وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق به سبحانه الذي لا يشابه صفات المخلوقين.
صفة السخرية والاستهزاء والمكر:
والاستهزاء والسخرية والمكر من صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة، قال تعالى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
(4)
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
(1)
رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسرح (3006)(18/ 343).
(2)
المفهم (5/ 509).
(3)
المفهم (6/ 74).
(4)
سورة البقرة، آية:15.
اللَّهُ مِنْهُمْ}
(1)
.
وجاء في الحديث عن آخر أهل النار خروجًا منها وأخر أهل الجنة دخولًا فيها، وفيه أنه قال يخاطب الله عز وجل:"أتسخر بي؟ أوتضحك بي وأنت الملك؟ "
(2)
.
قال ابن جرير الطبري بعد أن ذكر الاختلاف في صفة الاستهزاء: والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرًا وهو بذلك من قيله وفعله مورثه مساءة باطنًا وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر
(3)
.
وقال قوام السنة الأصبهاني: "وتولى الذب عنهم -أي المؤمنين- حين قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وأجاب عنهم فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب وتولى المجازاة لهم فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقال: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} لأن هاتين الصفتين إذا كانتا من الله لم تكن سفهًا لأن الله حكيم والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه يكون صوابًا وحكمة"
(4)
.
قال القرطبي عن هاتين الصفتين عند شرحه للحديث السابق: "قد أكثر الناس في تأويله ومن أشبه ما قيل فيه: إن هذا الرجل استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك غير ضابط لما يقول كما جاء في الحديث الآخر في
(1)
سورة التوبة، آية:79.
(2)
سبق تخريجه ص (583).
(3)
تفسير الطبري (1/ 166).
(4)
الحجة في بيان المحجة (1/ 181).
الذين وجد راحلته وقد أشرف على الهلاك من العطش والجوع: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"
(1)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخطأ من شدة الفرح" وقيل: إنما قال هذا الرجل ذلك على جهة: أنه خاف أن يقابله على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات والتشبه بأحوال الساخرين والمستهزئين فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ وهذا كما قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} و {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي: يجازيهم جزاء استهزائهم وسخريتهم على أحد التأويلات"
(2)
.
واعتبر القرطبي إطلاق المكر على الله تعالى على وجه المقابلة من باب المجاز فقال عند تأويله لملل الله تعالى الثابت بالحديث: "هو على الله محال، وإنما أطلق هنا على الله تعالى على جهة المقابلة اللفظية مجازًا، كما قال:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}
(3)
"
(4)
.
وقال المازري في شرحه للحديث السابق: "قد يقال: كيف يقال للباري سبحانه: أتسخر مني؟ وإنما ساغ ذلك في الشرع على وجه المقابلة كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}، و {يَسْتَهْزِئُونَ}، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} والجواب: أن هذا لم يقع إلَّا على جهة المقابلة، وهي وإن لم تكن موجودة في اللفظ فهي موجودة في معنى الحديث؛ لأنه ذكر فيه أنه عاهد الله مرارًا أن لا يسأل الله تعالى غير ما سأله ثم غدر، وحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدر أن قوله تعالى له: "ادخل الجنة" وتردده إليها وتخيله أنها ملأى ضرب من الإطماع له والسخرية به جزاء
(1)
سبق تخريجه ص (578).
(2)
المفهم (1/ 425).
(3)
سورة آل عمران، آية:54.
(4)
المفهم (2/ 414).
على ما تقدم من غدره وعقوبة له فسمي الجزاء على السخرية سخرية فقال: أتسخر مني أي تعاقبني بالإطماع"
(1)
.
قال ابن تيمية في الرد على الذين يقولون بالمجاز: "وكذلك ما ادعو أنه مجاز في القرآن كلفظ المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله تعالى وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلمًا له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلًا
…
(2)
، ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلًا يستحق هذا الاسم
…
وقال بعضهم: استهزاؤه: استدراجه لهم، وقيل: إيقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم. وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة. وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه، وهذا كله حق وهو استهزاء بهم"
(3)
.
وقال ابن القيم: "إن الله لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع، والاستهزاء مطلقًا، فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا بل تمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقًا فلا يقال: إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد؛ لأنه تعالى لم يصف نفسه بهذا إلَّا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه فإطلاق ذلك عليه
(1)
المعلم (1/ 228).
(2)
سورة التوبة، آية:79.
(3)
الفتاوى (7/ 111، 112).