الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السحر إلَّا ساحر
(1)
.
المطلب العاشر:
الرقى
والتمائم:
كانت الرقى تستخدم في الجاهلية لمعالجة اللديغ والمصاب بالعين وغيرها من الأمراض.
ولما كان في عمل الجاهلية هذا من ادعاء علم الغيب، ومن الشرك والتوكل على غير الله، والاستعانة بالجن، فقد وردت النصوص الشرعية تجريم ذلك كله، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الرقى والتمائم والتولة شرك"
(2)
.
لكن الصحابة رضي الله عنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بأنهم عندهم رقى يرقون بها من العقرب وغيرها، وأنهم بحاجة إلى تلك الرقى، فطلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يعرضوا عليه تلك الرقى فعرضوها عليه، فقال لهم بعد ذلك:"لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك"
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم عندما سألوه عن الرقى "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل"
(4)
.
قال القرطبي: "قول عائشة رضي الله عنها: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحمة"
(5)
وقول أنس: "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (4/ 396) وقد نقله عنه الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد.
(2)
رواه أحمد في مسنده (1/ 381) وأبو داود في كتاب الطب باب تعليق التمائم وابن ماجه في كتاب الطب باب تعليق التمائم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 336) ح (1632).
(3)
سبق تخريجه ص (334).
(4)
سبق تخريجه ص (334).
(5)
رواه البخاري في كتاب الطب باب رقية الحية والعقرب ح (5741)، (10/ 216)، ومسلم في كتاب السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة ح (2193)، (14/ 434).
من العين والحمة والنملة"
(1)
دليل على أن الأصل في الرقى كان ممنوعًا كما قد صرَّح به حيث قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى
(2)
. وإنما نهى عنه مطلقًا لأنهم كانوا يرقون في الجاهلية برقى هو شرك وبما لا يفهم وكانوا يعتقدون أن ذلك الرقى يؤثر، ثم إنهم لما أسلموا وزال ذلك عنهم نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك عمومًا ليكون أبلغ في المنع وأسد للذريعة، ثم إنهم لما سألوه وأخبروه: أنهم ينتفعون بذلك رخص لهم في بعض ذلك وقال: "أعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"
(3)
.
فجازت الرقية من كل الآفات، ومن الأمراض، والجراح، والقروح، والحمة، والعين، وغير ذلك، إذا كان الرقى بما يفهم، ولم يكن فيه شرك ولا شيء ممنوع
(4)
.
وقال المازري: "يحتمل أن يكون النهي كان ثابتًا ثم نُسخ، أو يكون كان النهي لأنهم كانوا يعتقدون منفعتها بطبيعة الكلام، كما كانت تعتقد الجاهلية، فلما استقر في أنفسهم وارتاضوا بالشرع أباحها لهم مع اعتقادهم أن الله هو النافع والضار، أو يكون النهي عن الرقى الكفرية ألا تراه يقول للذي قال له: "نهيت عن الرقى قال: فعرضوها عليه صلى الله عليه وسلم فقال ما أرى بأسًا"
(5)
.
وبهذا يتضح موقف الإسلام من الرقى، وأنها جائزة بشروط، قال
(1)
رواه مسلم في كتاب السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة ح (2196)، (14/ 435).
(2)
هو جزء من الحديث السابق الذي قال فيه عليه السلام "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
(3)
سبق تخريجه ص (334).
(4)
المفهم (5/ 580).
(5)
المُعلم (3/ 95).
ابن حجر رحمه الله: "أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط، وهي:
1 -
أن تكون بكلام الله وبأسمائه وصفاته، أو بما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
3 -
أن لا يعتقد أن الرقية تؤثر بذاتها، بل بإذن الله عز وجل"
(1)
.
وقد نصَّ المازري على الشرطين الأول والثاني من هذه الشروط التي ذكرها الحافظ فقال: "جميع الرقى عندنا جائزة إذا كانت بكتاب الله عز وجل وذكر الله وينهى عنها بالكلام الأعجمي ما لا يعرف معناه لجواز أن يكون فيه كفر أو إشراك"
(2)
.
وأما القرطبي رحمه الله فقد جعل الشرط الأول للأفضلية والكمال، فقال:"وأفضل ذلك وأنفعه ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم"
(3)
.
وقال عند شرحه لقوله عليه السلام عندما عرضوا عليه الرقى "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك"
(4)
: "دليل على جواز الرقى والتطبب بما لا ضرر فيه، ولا منع شرعيًا مطلقًا، وإن كان بغير أسماء الله تعالى وكلامه، لكن إذا كان مفهومًا"
(5)
.
وجعل رحمه الله الرقية ثلاثة أقسام:
-قسم من رقى الجاهلية، وبما لا يعرف، فهذا يجب اجتنابه على سائر
(1)
فتح الباري (10/ 206).
(2)
المعلم (3/ 95).
(3)
المفهم (5/ 581).
(4)
سبق تخريجه ص (334).
(5)
المفهم (5/ 584).
المسلمين.
- وقسم بأسماء الله تعالى وبالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التجاء إلى الله تعالى.
- وقسم ثالث وهو الرقى بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين، وما عطم الله وأجازه، لكنه جعل تركه أولى، فقال: الرقى بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين أو بالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار، وما شاكل ذلك مما يعظم كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقى فهذا القسم ليس من قبيل الرقى المحظور الذي يعم اجتنابه، وليس من قبيل الرقى الذي هو التجاء إلى الله تعالى، وتبرك بأسمائه، وكأن هذا القسم المتوسط يلحق بما يجوز فعله غير أن تركه أولى
(1)
.
فالقرطبي رحمه الله خالف في هذا الشرط، وهو كون الرقية بأسماء الله تعالى وصفاته وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز الرقية بأسماء الملائكة أو النبيين إلى غير ذلك مما ذكر، ولا شك أنه قد أخطأ فيما ذهب إليه، لأن الرقى من الاستعاذة، والاستعاذة من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلَّا لله تعالى وحده، فلا يجوز صرفها لغيره من المخلوقات مهما بلغت عظمتها.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ
(2)
: "الرقى الموصوفة بكونها شركًا هي الرقى التي منها شرك من دعاء غير الله والاستعانة
(1)
المفهم (1/ 466).
(2)
هو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب من أحفاد الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي كان إمامًا بارزًا في شتى العلوم توفي في شبابه وذلك سنة (1233 هـ) على يد إبراهيم باشا عندما استولى على الدرعية. الأعلام (3/ 129)، معجم المؤلفين (1/ 793).
والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن ونحو ذلك"
(1)
.
وإذا ثبت جواز الاسترقاء كما دلت النصوص على ذلك فهل يكون الاسترقاء قادحًا في التوكل أم لا؟
أي هل الاسترقاء أفضل أم تركه؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الإمام أحمد والخطابي والقاضي عياض والنووي، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم من العلماء، إلى أن الاسترقاء قادح في التوكل، وأن تركه أفضل كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال صلى الله عليه وسلم:"هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"
(2)
.
قال النووي: "الظاهر من معنى الحديث أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله عز وجل، فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم ولا شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها"
(3)
.
وذهب آخرون إلى أن الاسترقاء غير قادح في التوكل منهم ابن قتيبة وابن عبد البر والمازري والقرطبي.
وقد استدلوا على ذلك بما ورد من منافع الأدوية، والحث على التداوي إضافة إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين وأن الرقى بأسماء الله هو غاية التوكل على الله فهو التجاء إليه، وتعويل عليه في كشف الضر والبلاء.
(1)
تيسير العزيز الحميد ص (165).
(2)
رواه البخاري في كتاب الرقاق باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب ح (6541)، (11/ 413)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح (220)، (3/ 92).
(3)
شرح صحيح مسلم النووي (3/ 92).
وأما الحديث السابق، فقد قال المازري فيه بعد أن بين أنه قد جاءت أحاديث كثيرة في منافع الأدوية، وكثرة تداوي الرسول صلى الله عليه وسلم: فإذا ثبت هذا صح أن يحمل ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطباعها كما يقول بعض الطبائعيين لا أنهم يفوضون الأمر إلى الله سبحانه وحده"
(1)
.
لكن القرطبي رد قول المازري هذا فقال بعد سياقه لكلام المازري السابق: وهذا غير لائق بمساق الحديث ولا بمعناه إذ مقصوده: إثبات مزية وخصوصية لهؤلاء السبعين ألفًا، وما ذكره يرفع المزية والخصوصية، فإن مجانبة اعتقاد ذلك هو حال المسلمين كافة، ومن لم يجانب اعتقاد ذلك لم يكن مسلمًا، ثم إن ظاهر لفظ الحديث إنما هو "لا يرقون ولا يكتوون" أي لا يفعلون هذه الأمور، وما ذكره خروج عنه من غير دليل
(2)
.
ثم ذكر قول الداوودي
(3)
وهو أن المراد أن هؤلاء يجتنبون فعل ذلك في الصحة، وأما في المرض فجائز، ورد عليه القرطبي بأن هذا وإن صح في بعض الرقى لم يصح في البعض الآخر، فالتعويذات من الرقى ويجوز أن يتعوذ من الشرور كلها قبل وقوعها وكذلك التطبب يجوز أن يتحرز من الأدواء قبل وقوعها.
ثم ذكر قول الخطابي الذي سبق ذكره، وإقرار القاضي عياض له
(1)
المعلم (1/ 231).
(2)
المفهم (1/ 463).
(3)
هو أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي البوشنجي كان من الأئمة الكبار في المذهب الشافعي توفي سنة (467 هـ). سير أعلام النبلاء (18/ 222). معجم المؤلفين (2/ 122).
ولم يعلق عليه.
وذكر قولًا آخر لم ينسبه لأحد، وهو أن استعمال الرقى والكي قادح في التوكل بخلاف سائر أنواع الطب؛ لأن باب الرقى والكي والطيرة موهوم، وما عداها غير موهوم، بل محقق، فيصير كالأكل للغذاء أو الشرب للري.
وردَّ أيضًا هذا القول وبيَّن أنه فاسد من وجهين: أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهومة فلا معنى للتخصيص.
والثاني: أن الرقى باسماء الله هو غاية التوكل على الله تعالى، فإذا كان هذا قادحًا في التوكل فليكن الدعاء والأذكار قادحًا في التوكل، ولا قائل به، ثم بيَّن أن الرسول رقى واسترقى، وفعل ذلك الخلفاء والسلف، فإذا كانت الرقى قادحة في التوكل ومانعة من اللحوق بالسبعين ألفًا، فالتوكل لم يتم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه، ولا يكون بهذا أحد منهم من السبعين ألفًا، ولا يقول بهذا عاقل"
(1)
.
ثم بيَّن رأيه في هذه المسألة فقال: "وأمَّا الرقى والاسترقاء: فما كان منه من رقى الجاهلية أو بما لا يعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين وتركه حاصل من أكثرهم، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا، ولا اجتناب الرقى بأسماء الله تعالى وبالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدمناه من أنه التجاء إلى الله وتبرك بأسمائه.
ويظهر لي والله أعلم أن المقصود: اجتناب رقى لا تدخل في هذين القسمين كالرقى بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين، أو بالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار وما شاكل ذلك مما يعظم
…
هذا ما
(1)
انظر: المفهم (1/ 463، 464، 465).