‌المطلب السابع: تكليف ما لا يطاق: - آراء القرطبي والمازري الاعتقادية

‌

‌المطلب السابع: تكليف ما لا يطاق:

الطاقة: هي الاستطاعة

(1)

. والإجماع على أن الله سبحانه وتعالى ما كلَّف العباد إلَّا بما يستطيعون، كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(2)

.

قال شيخ الإسلام في بيان ذلك: "ما قال أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، لا مالك ولا أبوحنيفة، ولا الشافعي، ولا أحمد، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث

(3)

، ولا أمثال هؤلاء أن الله يكلف العباد ما لا يطيقونه"

(4)

.

وهذا الذي قرَّره القرطبي عند ذكره للآية السابقة حيث قال: "هذا خبرٌ من الله تعالى أنه لا يأمرنا إلَّا بما نطيقه، ويمكننا إيقاعه عادة، وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره، ويدل على ذلك تصفحها، وقد حكي الإجماع على ذلك"

(5)

.

ولكن هل يصح التكليف بما لا يُطاق؟ .

هذا موطن خلاف بين الطوائف.

والتكليف بما لا يُطاق على قسمين:

الأول: ما لا يطاق للعجز عنه عادة: كتكليف الإنسان بالطيران في الهواء، أو المشي فوق الماء. وما لا يطاق للعجزء عنه عقلًا كالجمع بين الضدين.

الثاني: ما لا يطاق، لا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده: كتكليف الكافر الإيمان في حال كفره.

والأشاعرة اتفقوا على جواز النوع الثاني، واختلفوا في النوع الأول، فمن مجيز ومانع

(1)

.

وقد حكى القرطبي هذا الخلاف دون ترجيح نقال: "إنما الخلاف في جواز التكليف بما لا يمكننا إيقاعه: عقلًا كالجمع بين الضدين، أو عادة: كالطيران في الهواء، والمشي فوق الماء، فمن مجوز ومن مانع"

(2)

.

ولكنه في موضع آخر وافق الأشاعرة في قولهم، فرجَّح جواز التكليف بما لا يطاق، فقال: "قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}

(3)

ما: هذه أيضًا على عمومها، فتتناول كل ما يقع في نفس الإنسان من الخواطر، ما أُطيق دفعها شها، وما لا يُطاق، ولذلك أشفقت الصحابة من محاسبتهم على جميع ذلك، ومؤاخذتهم به، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كُلِّفنا ما نطيق بالصلاة والى جام، وهذه الآية لا نطيقها

…

فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما فهموه، وبيَّن لهم أن لله تعالى أن

يكلف عباده بما يطيقونه وبما لا يطيقونه"

(1)

.

وقال في استخراجه لفوائد من قوله صلى الله عليه وسلم: "من صَوَّرَ صورةً في الدُّنيا كلِّف أن ينفُخ فيها الرُّوح يوم القيامة وليس بنافخ"

(2)

: ويُستفاد منه جواز التكليف بالمحال في الدنيا، كما جاز في الآخرة

(3)

.

والمازري لم يصرح بهذا فعند شرحه لحديث أبي هريرة- رضي الله عنه الذي قال فيه: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}

(4)

قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَتوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ بركُوا على الرُّكَب فقالوا: لا نطيقها"

(5)

: قال: إشفاقهم وقولهم: "لا نطيقها" يحتمل أن يكون أنهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق

…

فإن كان المراد هذا كان الحديث دليلًا على أنهم كلفوا ما لا يطاق، وعندنا أن تكليفه جائزٌ عقلًا"

(6)

.

والقول بتكليف ما لا يطاق بناه الأشاعرة على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء.