الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الحالة العلمية فى عصر الإمام الزركشى
يعد هذا العصر من الناحية العلمية عصرًا مجيدًا حيث قامت فيه حركة التأليف والتدريس وبناء المساجد والمدارس العلمية، ونشطت فيه نشاطًا كبيرًا بسبب المنافسة بين الأمراء والحكام، فهو يعتبر بحق عصر النشاط العلمى والتأليف لما جُمع فيه من العلوم فى فنون مختلفة مثل التاريخ واللغة وجميع فروع العلم الشرعى وفيها علوم القرآن من تفسير وأحكام تلاوة وإعراب وغير ذلك، وعلم الحديث رواية ودراية وما يتعلق بذلك من معرفة الرجال والتواريخ والطبقات، وكذلك علم الفقه وأصوله وغير ذلك من الفروع. وبالرغم من هذه الحركة الواسعة فى التأليف والتصنيف فقد كان أكثر علماء هذا العصر عاكفين على ما وصلهم من تراث السابقين، يفهمونه ويفيدون منه، ويشرحونه أحيانًا وأحيانًا، يختصرونه، فكانت حركتهم فى التأليف قاصرة على اختصار المطولات، وشرح المختصرات وجمع المتفرقات مع التقيد بأفكار وآراء السابقين لهم من الفقهاء والمتكلمين. وكان من نتيجة ذلك الاقتصار على المذاهب الأربعة فى الفقه تقليدًا منهم لمن قال بسد باب الاجتهاد فى القرن الرابع، ولم يظهر طابع الاستقلال بالرأى وإظهار الاجتهاد والتجديد والترجيح إلا فى تأليف نفر قليل على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى عام 728 هـ، وأبو إسحق الشاطبى المتوفى عام 790 هـ (1).
وقد انتشر التصوف فى هذا العصر، حيث تكاثر مشايخ الصوفية، فبثوا تعاليمهم فى مصر، حيث وجدوا فيها تربة خصبة لنشر مبادئهم، وكثر المشعوذون
(1) ابن تيمية للدكتور محمد يوسف موسى ص 60، والزركشى ومنهجه للدكتور عبد العزيز صقر ص 43.
فأضلوا الناس حيث جعلوهم قبلة لهم فى أذكارهم، وقضاء حوائجهم (1). وصرف حقوق اللَّه تعالى المحضة للمخلوق والعياذ باللَّه.
وقد لخص لنا الأستاذ محمد أبو الفضل فى مقدمة الإتقان للسيوطى حالة هذا العصر بقوله بعد أن ذكر حال البلاد وما تعرضت له من فتن واضطرابات وبعد سقوط الخلافة العباسية ببغداد: "ولكن لأمر أراده اللَّه لحفظ كتابه وحماية دينه قامت مصر والشام فحملتا لواء الزعامة الإِسلامية، وأخذتا بزمام الحركة العلمية والأدبية، وأصبحتا الملجأ الوحيد لأبناء هذا اللسان فى مملكة واحدة حاضرتها القاهرة، ولغتها العربية، وغايتها حماية الدين والملة، فوجدوا فيها الحرم الآمن، والظل الوارف، والمورد العذب، ولم يجد الملوك والأمراء من المماليك ما يوطد سلطانهم ويمكن لحكمهم إلا أن يعظموا الدين وأهله، ويأخذوا بيد العلم والعلماء، ويرفعوا من قدرهم، فأسسوا المدارس والمعاهد، وأقاموا الربط والخوانق، وأرصدوا الأموال والضياع لطلاب العلم والمعرفة، وأنشأوا دور الكتب، وجلبو إليها أنفس الكتب والمصنفات، وأصبحت القاهرة، والأسكندرية، وأسيوط، وقوص، ودمشق، وحلب، وحمص تموج بأعيان العلماء من الفقهاء والأدباء والمؤرخين والشعراء وأصحاب المعاجم ومؤلفى الموسوعات"(2).
ومن هذه المدارس التى أسست فى هذا العصر:
المدرسة المنصورية، والقبة، بناهما الملك المنصور بن قلاوون، ونظم بهما دروسًا أربعة على المذاهب الفقهية الأربعة، ودرسًا للطب، ودروسًا للحديث النبوى، ودرسًا للتفسير، وكان لا يتولى هذه الدروس إلا جلة العلماء (3).
والمدرسة الكاملية (دار الحديث الكاملية) أنشأها السلطان ناصر الدين الكامل، ووقفها على المشتغلين بالحديث، ثم من بعدهم فقهاء الشافعية،
(1) المجتمع المصرى لسعيد عاشور ص 162 - 163.
(2)
مقدمة الاتقان للسيوطى 1/ 3 - 4 تحقيق محمد أبو الفضل.
(3)
خطط المقريزى 4/ 222.
والمدرسة الحجازية أنشأتها ابنة السلطان الملك الناصر بن قلاوون.
والمدرسة الناصرية أنشأها الملك الناصر بن قلاوون سنة 703 هـ، وكان بها إمام يؤم الناس فى الصلوات الخمس، وبها خزانة كتب عظيمة (1).
وهذا نموذج من النشاط العلمى فى هذا العصر، وفى وسط هذا الجو، وفى هذا العصر الزاخر بالعلم والعلماء نشأ الإمام الزركشى، وعاش حياته العلمية، وتثقف بثقافة عصره، ونهل من علمه، حتى صار علمًا من الأعلام، واستطاع فى مدة حياته القصيرة أن يترك الأثر الطيب، والعلم النافع للمسلمين، وبهذا لم ينقطع عمله، لحديث النبى -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم-:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(2).
* * *
(1) خطط المقريزى 4/ 219.
(2)
انظر صحيح مسلم 5/ 73 - كتاب الوصية - باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.