الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانظر: المسألة التالية.
1448 - المدعي يحلف ابتداء مع اللوث:
1449 -
وحبس المتهم:
1450 -
ولا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة:
1451 -
وتعزير مدع بسرقة على من تعلم براءته:
1452 -
وخبر من له رئي من الجن:
- قال ابن القيم: (ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه في ذلك جواباً وسؤالاً: هل السياسة بالضرب والحبس للمتهمين في الدعاوى وغيرها من الشرع، أم لا؟ وإذا كانت من الشرع فمن يستحق ذلك، ومن لا يستحقه؟ وما قدر الضرب، ومدة الحبس؟
فأجاب: الدعاوى التي يحكم فيها ولاة الأمور، سواء سموا قضاة، أو ولاة، أو ولاة الأحداث، أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية فإن حكم الله تبارك وتعالى شامل لجميع الخلائق، وعلى كل من ولي أمراً من أمور الناس، أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل فيحكم بكتاب الله، وسنة رسوله، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
فالدعاوى قسمان: دعوى تهمة، ودعوى غير تهمة:
فدعوى التهمة: أن يدعي فعل محرم على المطلوب، يوجب عقوبته، مثل: قتل، أو قطع طريق، أو سرقة، أو غير ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأحوال.
وغير التهمة: أن يدعي عقداً: من بيع، أو قرض، أو رهن، أو ضمان، أو غير ذلك.
وكل من القسمين قد يكون حدا محضا كالشرب والزنا، وقد يكون حقا محضا لآدمي، كالأموال، وقد يكون متضمنا للأمرين، كالسرقة وقطع الطريق.
فهذا القسم إن أقام المدعي عليه حجة شرعية، وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لما روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . وفي رواية في «الصحيحين» عنه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين على المدعى عليه.
فهذا الحديث نص في أن أحدا لا يعطى بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوى المتضمنة للإعطاء فيها اليمين ابتداء على المدعى عليه، وليس فيها أن الدعاوى الموجبة للعقوبات لا توجب اليمين إلا على المدعى عليه، بل قد ثبت عنه في «الصحيحين» في قصة القسامة: أنه قال لمدعي الدم: «تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم» فقالوا: كيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال:«فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» .
وثبت في «صحيح مسلم» عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. وابن عباس هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين على المدعى عليه، وهو الذي روى أنه قضى باليمين والشاهد. ولا تعارض بين الحديثين، بل هذا في دعوى، وهذا في دعوى.
وأما الحديث المشهور على ألسنة الفقهاء: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فهذا قد روي، ولكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أصحاب السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الأمة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة، مثل: أبي حنيفة وغيره، فإنهم يرون اليمين دائما في جانب المنكر، حتى في القسامة يحلفون المدعى عليه، ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولا يردون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث.
وأما سائر علماء الأمة من أهل المدينة، ومكة، والشام، وفقهاء الحديث، وغيرهم، مثل: ابن جريج، ومالك، والشافعي، والليث، وأحمد، وإسحاق = فتارة يحلفون المدعى عليه، كما جاءت بذلك السنة، والأصل عندهم أن اليمين مشروعة في أقوى الجانبين، وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام، وأحاديثهم خاصة، وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر، فالعمل بها عند التعارض أولى.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلب البينة من المدعي، واليمين من المنكر في حكومات معينة، ليست من جنس دعاوى التهم، مثل ما خرجا في «الصحيحين» عن الأشعث بن قيس أنه قال: كان بيني وبين رجل حكومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:«شاهداك، أو يمينه» . فقلت: إذاً يحلف
ولا يبالي. فقال: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان» . وفي رواية: فقال: «بينتك أنها بئرك، وإلا فيمينه» . وعن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الذي من حضرموت: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي. فقال الكندي: هي أرضي، في يدي، أزرعها، ليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«ألك بينة؟ » قال: لا. قال: «فلك يمينه» . فقال: يا رسول الله، الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. فقال:«ليس لك منه إلا ذلك» فلما أدبر الرجل ليحلف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض» . رواه مسلم.
ففي الحديث أنه لم يوجب على المطلوب إلا اليمين، مع ذكر المدعي لفجوره، وقال:«ليس لك منه إلا ذلك» ، وكذلك في الحديث الأول، وكان خصم الأشعث بن قيس يهوديا، هكذا جاء في «الصحيحين» ، ومع هذا لم يوجب عليه إلا اليمين.
وفي حديث القسامة: أن الأنصار قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعا أن القول فيه قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية، وهي البينة، لكن البينة ــ التي هي الحجة الشرعية ــ تارة تكون شاهدين عدلين ذكرين، وتارة تكون رجلا وامرأتين، وتارة أربعة رجال، وتارة ثلاثة، عند طائفة من العلماء، وذلك في دعوى إفلاس من علم له مال متقدم، كما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث قبيصة بن مخارق، قال: «لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة
اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصاب فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواهن يا قبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتا».
فهذا الحديث صريح، في أنه لا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة، وهو الصواب الذي يتعين القول به، وهو اختيار بعض أصحابنا، وبعض الشافعية.
قالوا: ولأن الإعسار من الأمور الخفية، التي تقوى فيها التهمة بإخفاء المال فروعي فيها الزيادة في البينة، وجعلت بين مرتبة أعلى البينات، ومرتبة أدنى البينات.
وتارة تكون الحجة شاهدا ويمين الطالب، وتارة تكون امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وامرأتين عند مالك وأحمد في رواية، وأربع نسوة عند الشافعي، وتارة تكون رجلاً واحداً في داء الدابة، وشهادة الطبيب إذا لم يوجد اثنان، كما نص عليه أحمد، وتارة تكون لوثا ولطخا مع أيمان المدعين، كما في القسامة، وامتازت بكون الأيمان فيها خمسين تغليظا لشأن الدم، كما امتاز اللعان بكون الأيمان فيه أربعا.
والقسامة يجب فيها القود عند مالك وأحمد وأبي حنيفة، وتوجب الدية فقط عند الشافعي، وأما أهل الرأي فيحلفون فيها المدعى عليه خاصة، ويوجبون عليه الدية مع تحليفه
…
(1)
.
(1)
أضاف ابن القيم هنا كلاما من قبله حول أنواع البينات.
قال شيخنا رحمه الله: وقد وقع فيه من التفريط من بعض ولاة الأمور، والعدوان من بعضهم: ما أوجب الجهل بالحق، والظلم للخلق، وصار لفظ «الشرع» غير مطابق لمعناه الأصلي، بل لفظ «الشرع» في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:
الشرع المنزل: وهو الكتاب، والسنة، واتباع هذا الشرع: واجب، ومن خرج عنه: وجب قتاله، وتدخل فيه: أصول الدين، وفروعه، وسياسة الأمراء، وولاة المال، وحكم الحاكم، ومشيخة الشيوخ، وولاة الحسبة، وغير ذلك، فكل هؤلاء عليهم أن يحكموا بالشرع المنزل، ولا يخرجوا عنه.
الثاني: الشرع المتأول: وهو مورد النزاع والاجتهاد بين الأئمة، فمن أخذ بما يسوغ فيه الاجتهاد: أقر عليه، ولم يجب على جميع الناس موافقته، إلا بحجة لا مرد لها من كتاب الله، وسنة رسوله.
والثالث: الشرع المبدل: مثل ما يثبت بشهادات الزور، ويحكم فيه بالجهل والظلم، أو يؤمر فيه بإقرار باطل: لإضاعة حق، مثل: تعليم المريض أن يقر لوارث بما ليس له: ليبطل به حق بقية الورثة. والأمر بذلك: حرام، والشهادة عليه: محرمة، والحاكم إذا عرف باطن الأمر، وأنه غير مطابق للحق، فحكم به: كان جائرا آثما، وإن لم يعرف باطن الأمر: لم يأثم.
فقد قال سيد الحكام صلوات الله وسلامه عليه، في الحديث المتفق عليه:«إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» .
فصل
القسم الثاني من الدعاوى: دعاوى التهم: وهي دعوى الجناية والأفعال المحرمة، كدعوى القتل، وقطع الطريق، والسرقة، والقذف، والعدوان.
فهذا ينقسم المدعى عليه فيه إلى ثلاثة أقسام، فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرا من أهلها، أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم حاله.
فإن كان بريئا لم تجز عقوبته اتفاقا، واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين، أصحهما أنه يعاقب، صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.
قال مالك وأشهب رحمهما الله: لا أدب على المدعي إلا أن يقصد أذية المدعى عليه وعيبه وشتمه، فيؤدب، وقال أصبغ: يؤدب قصد أذيته أو لم يقصد.
وهل يحلف في هذه الصور؟ فإن كان المدعى حدا لله لم يحلف عليه، وإن كان حقا لآدمي ففيه قولان مبنيان على سماع الدعوى، فإن سمعت الدعوى حلف له، وإلا لم يحلف.
والصحيح أنه لا تسمع الدعوى في هذه الصورة، ولا يحلف المتهم؛ لئلا يتطرق الأراذل والأشرار إلى الاستهانة بأولي الفضل والأخطار، كما تقدم من أن المسلمين يرون ذلك قبيحا.
فصل
القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال، لا يعرف ببر ولا فجور فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عليه عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي، هكذا نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره أصحاب أبي حنيفة.
وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة. قال أحمد: وذلك حتى يتبين للحاكم أمره.
وقد روى أبو داود في «سننه» وأحمد وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة.
قال علي بن المديني: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح.
وفي «جامع الخلال» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة.
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعى عليه الذي يسوغ إحضاره وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم حتى يفصل بينهما، ويحضره من مسافة العدوى ــ التي هي عند بعضهم بريد ــ وهو مالا يمكن الذهاب إليه والعود في يومه، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد وهو رواية عن أحمد، وعند بعضهم يحضره من مسافة القصر، وهي مسيرة يومين قاصدين كما هي الرواية الأخرى عن أحمد.
ثم إن الحاكم قد يكون مشغولا عن تعجيل الفصل، وقد تكون عنده
حكومات سابقة، فيكون المطلوب محبوسا معوقا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا حبس بدون التهمة، ففي التهمة أولى، فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرا، كما روى أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال:«الزمه» . ثم قال لي: «يا أخا بني تميم، ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ » .
وفي رواية ابن ماجه: ثم مر بي آخر النهار، فقال:«ما فعل أسيرك، يا أخا بني تميم؟ » .
وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها.
ولهذا تنازع العلماء ــ من أصحاب أحمد وغيرهم ــ هل يتخذ الإمام حبسا؟ على قولين:
فمن قال: لا يتخذ حبسا، قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ ــ وهو الذي يسمى الترسيم ــ، أو يأمر غريمه بملازمته، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قال: له أن يتخذ حبسا، قال: قد اشترى عمر بن الخطاب من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف درهم، وجعلها حبسا.
ولما كان حضور مجلس الحاكم تعويقا من جنس الحبس تنازع العلماء: هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوى، أو لا يحضر حتى يبين المدعي أن للدعوى أصلا؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، والأول: قول أبي حنيفة والشافعي، والثاني: قول مالك.
فصل
ومنهم من قال: الحبس في التهم إنما هو لوالي الحرب دون القاضي، وقد ذكر هذا طائفة من أصحاب الشافعي كأبي عبد الله الزبيري والماوردي وغيرهما، وطائفة من أصحاب المصنفين في أدب القضاة وغيرهم.
واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة، هل هو مقدر أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم؟ على قولين، ذكرهما الماوردي وأبو يعلى وغيرهما، فقال الزبيري: هو مقدر بشهر، وقال الماوردي: غير مقدر.
فصل
القسم الثالث: أن يكون المتهم معروفا بالفجور، كالسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك، فإذا جاز حبس المجهول فحبس هذا أولى.
قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: وما علمت أحداً من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، فليس هذا على إطلاقه مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من الأئمة.
ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع فقد غلط غلطا فاحشا، مخالفا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولإجماع الأمة.
وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا
أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم، ومصلحة الأمة، وتعدوا حدود الله، وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج عنه إلى أنواع من الظلم، والبدع، والسياسة.
جعلها
(1)
هؤلاء من الشرع، وجعلها هؤلاء قسيمة ومقابلة له، وزعموا أن الشرع ناقص، لا يقوم بمصالح الناس، وجعل أولئك ما فهموه من العموميات والإطلاقات هو الشرع، وإن تضمن خلاف ما شهدت به الشواهد والعلامات الصحيحة.
والطائفتان مخطئتان في الشرع أقبح خطأ، وأفحشه، وإنما أتوا من تقصيرهم في معرفة الشرع، الذي أنزله الله على رسوله، وشرعه بين عباده، كما تقدم بيانه.
فإنه أنزل الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط، ولم يسوغ تكذيب صادق، ولا إبطال أمارة وعلامة شاهدة بالحق، بل أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولم يأمر برده مطلقا، حتى تقوم أمارة على صدقه فيقبل، أو كذبه فيرد، فحكمه دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، ومع من كان، وبأي دليل صحيح كان.
فتوسع كثير من هؤلاء، في أمور ظنوها علامات، وأمارات أثبتوا بها أحكاما، وقصر كثير من أولئك عن أدلة، وعلامات ظاهرة ظنوها غير صالحة لإثبات الأحكام.
(1)
من هنا إلى كلمة (فصل) غير موجود في مطبوعة «الفتاوى» فلا أدري هل سقط منها، أم أنه من زيادات ابن القيم؟
فصل
ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم، الذي غيب ماله حتى أقر به، في قصة ابن أبي الحقيق.
قال شيخنا: واختلفوا فيه: هل الذي يضربه الوالي دون القاضي، أو كلاهما، أو لا يسوغ ضربه؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يضربه الوالي والقاضي، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، منهم: أشهب بن عبد العزيز، قاضي مصر، فإنه قال: يمتحن بالحبس والضرب، ويضرب بالسوط مجردا.
والقول الثاني: أنه يضربه الوالي دون القاضي، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، حكاه القاضيان.
ووجه هذا: أن الضرب المشروع هو ضرب الحدود والتعزيرات، وذلك إنما يكون بعد ثبوت أسبابها، وتحققها.
والقول الثالث: أنه يحبس ولا يضرب، وهذا قول أصبغ، وكثير من الطوائف الثلاثة، بل قول أكثرهم، لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول.
ثم قالت طائفة، منهم عمر بن عبد العزيز، ومطرف وابن الماجشون: إنه يحبس حتى يموت.
ونَصَّ عليه الإمام أحمد في المبتدع الذي لم ينته عن بدعته: أنه يحبس حتى يموت.
وقال مالك: لا يحبس إلى الموت.
فصل
والذين جعلوا عقوبته للوالي دون القاضي قالوا: ولاية أمير الحرب معتمدها المنع من الفساد في الأرض، وقمع أهل الشر والعدوان، وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين، المعروفين بالإجرام، بخلاف ولاية الحكم، فإن مقصودها إيصال الحقوق إلى أربابها، وإثباتها.
قال شيخنا: وهذا القول هو في الحقيقة قول بجواز ذلك في الشريعة، لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه، فكما أن والي الصدقات يملك من أمر القبض والصرف ما لا يملكه والي الخراج وعكسه، وكذلك والي الحرب ووالي الحكم يفعل كل منهما ما اقتضته ولايته الشرعية، مع رعاية العدل، والتقيد بالشريعة.
فصل
وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده، وقد جحده فمتفق عليها بين العلماء، لا نزاع بينهم أن من وجب عليه حق أو دين وهو قادر على أدائه وامتنع منه أنه يعاقب حتى يؤديه، ونصوا على عقوبته بالضرب، ذكر ذلك الفقهاء من الطوائف الأربعة.
وقال أصحاب أحمد: إذا أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع أمر أن يختار إحدى الأختين أو أربعا، فإن أبى حبس وضرب حتى يختار، قالوا: وهكذا كل من وجب عليه حق هو قادر على أدائه فامتنع منه، فإنه يضرب حتى يؤديه.
وفي «السنن» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته» .
والعقوبة لا تختص بالحبس بل هي بالضرب أظهر منها في الحبس، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مطل الغني ظلم» ، والظالم يستحق العقوبة شرعا وقدرا.
فصل
واتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد وهي نوعان: ترك واجب، أو فعل محرم.
فمن ترك الواجبات مع القدرة عليها، كقضاء الديون، وأداء الأمانات من الوكالات والودائع وأموال اليتامى والوقوف والأموال السلطانية، ورد الغصوب والمظالم = فإنه يعاقب حتى يؤديها، وكذلك من وجب عليه إحضار نفس لاستيفاء حق وجب عليها، مثل أن يقطع الطريق ويلتجئ إلى من يمنعه ويذب عنه، فهذا يعاقب حتى يحضره.
وقد روى مسلم في «صحيحه» عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا» .
وروى أبو داود في «سننه» عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاصم في باطل ــ وهو يعلم ــ لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما عليه» .
قال: فما وجب إحضاره من النفوس والأموال استحق الممتنع من إحضاره العقوبة، وأما إذا كان إحضاره إلى من يظلمه، أو إحضار المال إلى من يأخذه بغير حق فهذا لا يجب، بل ولا يجوز، فإن الإعانة على الظلم ظلم) [الطرق الحكمية 79 - 81].
- وقال ابن مفلح: (واختار شيخنا: أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث، وأن الدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعى عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه.
ويحبس المستور ليبين أمره أو ثلاثا على وجهين
(1)
، نقل حنبل: حتى يبين أمره، ونص أحمد ومحققو أصحابه على حبسه، واحتج أحمد بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة، بخلاف دعوى بيع أو قرض ونحوه، لتفريطه بترك كتابته والإشهاد.
وأن تحليف كل مدعى عليه وإرساله مجانا ليس مذهبا لإمام.
واحتج في مكان آخر بأن قوما اتهموا أناسا بسرقة فرفعوهم إلى النعمان بن بشير فحبسهم أياما ثم أطلقهم، فقالوا له: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال لهم: إن شئتم ضربتهم، فإن ظهر ما لكم وإلا ضربتكم مثل ما ضربتهم، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: حكم الله تعالى ورسوله. إسناده جيد رواه النسائي وأبو داود، وترجم عليه: باب في الامتحان بالضرب، وظاهره أنه قال به، وقال به شيخنا.
وفي «الأحكام السلطانية» : يحبسه وال، قال: فظاهر كلام أحمد: وقاض، وأنه ليشهد له {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية [النور: 8] حملنا على الحبس لقوة التهمة، وذكر شيخنا الأول قول أكثر العلماء.
واختار تعزير مدع بسرقة ونحوها على من تعلم براءته.
(1)
قال المرداوي في «تصحيح الفروع» : (هذا من تتمة كلام الشيخ تقي الدين، وليس من الخلاف المطلق).