الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الخامس:
(2233 - 184) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين وأحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا عبيد الله يعنى ابن عمرو، عن عبد الكريم، عن ابن جبير -قال أحمد: عن سعيد بن جبير-
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد. قال حسين: كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة
(1)
.
[رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وقفه ورفعه]
(2)
.
= وقال ابن سعد: كان ثقة وربما غلط. الطبقات الكبرى (7/ 327).
وقال أيضًا: كان معروفا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقوي في الحديث. المرجع السابق (7/ 290).
ووثقه يعقوب بن شيبة، وأبو داود والنسائي وابن معين وغيرهم. انظر تهذيب التهذيب (5/ 83).
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى رحمه الله عن عباد بن عباد المهلبي، فقال: صدوق لا بأس به. قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: لا. الجرح والتعديل (6/ 82)، وعلى كل حال، فعباد ثقة قد جاوز القنطرة، ولكن حديثه هذا مرسل، والله أعلم.
(1)
مسند أحمد (1/ 273).
(2)
الحديث رواه أحمد (1/ 273) عن حسين بن محمد بن بهرام، وأحمد بن عبد الملك.
ورواه ابن سعد في الطبقات (1/) وابن أبي خيثمة في تاريخه (909)، وأبو يعلى في مسنده (2603) عن عبد الله بن جعفر الرقي.
ورواه أبو داود (4212) عن أبي توبة ربيع بن نافع.
ورواه والنسائي (5075) عن عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي.
وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3699) من طريق علي بن معبد،
وأخرجه أبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن (319) من طريق أحمد بن زهير،
وأخرجه وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12254)، والبيهقي في السنن (7/ 311) من طريق عمرو بن خالد، كلهم (حسين وأحمد بن عبد الملك، وعبد الله بن جعفر، وأبو توبة، وعبد الرحمن الحلبي، وعلي بن معبد، وأحمد بن زهير، وعمرو بن خالد) رووه عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 499): «ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن عباس مرفوعًا (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة) وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع.
قلت: لم أقف على هذا الاختلاف في الحديث من مخرج واحد، فليتأمل.
وهذا الإسناد مداره على عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
واختلف في عبد الكريم. فورد في أكثر الروايات غير منسوب.
وورد في سنن أبي داود (4212) من طريق توبة وعند البيهقي في شعب الإيمان (5/ 215) رقم 6414 من طريق هلال بن العلاء الرقي، عن أبيه وعبد الله بن جعفر، ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم الجزري مصرحًا بأنه الجزري.
ورأى ابن الجوزي أنه ابن أبي المخارق، فذكره في الموضوعات، قال (1455):«هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري» . اهـ
فتعقبه الحافظ ابن حجر في القول المسدد (ص: 48) فقال: «أخطأ ابن الجوزي فإن عبد الكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري، الثقة المخرج له في الصحيح، ثم ذكر من خرج الحديث» . اهـ
وقال ابن عراق في التنزيه (2/ 275): «وسبق الحافظَ ابن حجر إلى تخطئة ابن الجوزي في هذا الحديث الحافظُ العلائي» .
والحق مع الحافظ للأسباب التالية.
أولًا: أنه ذكر منسوبًا عند أبي داود، وسنده صحيح، وعند البيهقي في شعب الإيمان، وسنده حسن.
ثانيًا: أن عبيد الله بن عمرو الرقي لا يروي عن ابن أبي المخارق فلم يذكر المزي في تهذيب الكمال أنه من تلاميذه، بينما معروف أن عبيد الله الرقي يروي عن الجزري، وهذه قرينة في أن عبد الكريم هو الجزري، بل ذكر الحديث في تحفة الأشراف (4/ 424) من مسند عبد الكريم الجزري، عن سعيد، عن ابن عباس.
وعبيد الله بن عمرو راوية الجزري، لكن تفرد الجزري عن سعيد بن جبير بهذا الحديث، ولم يروه غيره من أصحاب سعيد بن جبير كأيوب والمنهال بن عمرو وغيرهما.
وقد قال ابن حبان: كان صدوقًا، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد من الأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن أستخير الله فيه». المجروحين (2/ 146). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال يعقوب بن شيبة: «هو إلى الضعف ما هو، وهو صدوق، وقد روى عنه مالك، وكان ممن ينقي الرجال» . تهذيب التهذيب (6/ 333).
والحق أن عبد الكريم ثقة، متفق على ثقته، وتعميم ابن حبان غير مرضي، ولم ينتقد حديث عبد الكريم إلا في روايته عن عطاء، وابن حبان إذا جرح عمَّم، لكن الأئمة قد يعلون الحديث إذا تفرد به ثقة عن أقرانه، وكان أصلًا في الباب، ولم يصححه معتبر، فكيف وقد اختلف في إسناده ومتنه، وإليك بيانه:
الحديث رواه عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس كما سبق.
ورواه الحكيم الترمذي في المنهيات (199) من طريق أبي حمزة السكري، عن عبدالكريم، عن مجاهد، أنه ذكر عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.
وعبد الكريم هذا هو الجزري، لأن أبا حمزة السكري لا يروي إلا عن الجزري، ومجاهد لم يصرح أنه سمعه من ابن عباس.
والأول أقوى إسنادًا، والحكيم الترمذي متكلم فيه، لكنه قد توبع على الأقل في ذكر مجاهد.
فقد رواه الخلال في كتاب الترجل (ص: 139) أخبرنا يحيى، قال: أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا هشام بن عبد الله، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: يكون قوم في آخر الزمان يسودون شعورهم، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.
وهذا إسناد حسن إلى عبد الكريم بن أبي أمية، رجاله كلهم ثقات إلا عبد الوهاب، فإنه صدوق، وهنا صرح في الإسناد أن عبد الكريم هو ابن أبي أمية المتروك.
كما أن فيه مخالفة أخرى، وهو أن المتن ليس فيه:(لا يريحون رائحة الجنة).
كما أن هشامًا توبع في كون الحديث من قول مجاهد، فقد روى عبد الرزاق في المصنف (20183) قال: أخبرنا معمر، عن خلاد بن عبد الرحمن، عن مجاهد، قال: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد لا ينظر الله إليهم، أو قال: لا خلاق لهم.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات.
وأما ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 148) رقم 25031 قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن موسى بن نجدة، عن جده زيد بن عبد الرحمن، قال: سألت أبا هريرة: ما ترى في الخضاب بالوسمة؟ فقال: لا يجد المختضب بها ريح الجنة.
فهذا إسناد ضعيف، فيه موسى بن نجدة لم يرو عنه غير ملازم بن عمرو، ولم يوثقه أحد، ولذلك قال الحافظ: مجهول.
ورواه الخلال في الوقوف والترجل (ص: 139): أخبرنا محمد بن علي، حدثنا مهنا، قال: حدثني أبو عصام داود، حدثنا زهير بن محمد العنبري، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يغيرون البياض بالسواد، قال مرة: يغيرون بياض اللحية والرأس بالسواد يسود الله وجهوهم يوم القيامة.
وهذا مع كون إسناده ضعيفًا، فإنه من مراسيل الحسن، وهي من أضعف المراسيل، والله أعلم.
وأما قول الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 499): «ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعًا (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة) وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع.
فإن كان يعني الحافظ أنه موقوف على صحابي فمسلم، ولم أقف عليه موقوفًا على ابن عباس.
وإن كان يقصد الحافظ أنه موقوف على مجاهد
فليس بجيد لأن قول التابعي قولًا لا مجال للرأي فيه كأن يكون من الغيبيات، هل يكون له حكم الرفع؟ ، بحيث يقال: إنه في حكم المرسل.
أو يقال: إنه موقوف عليه، وفرق بينه وبين الصحابي من وجوه.
الأول: أن الصحابي الغالب منه أنه يروى عن صحابي مثله، أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتالي الواسطة ثقة، فيكون له حكم الرفع، بينما التابعي قد يروي عن تابعي آخر، والتابعي الآخر قد يكون حافظًا، وقد لا يكون.
الوجه الثاني: أنه على التسليم بأن له حكم المرسل، فمرسل التابعي ضعيف، بخلاف مرسل الصحابي رضي الله عنه.
الوجه الثالث: إذا كنا نشترط في الصحابي ألا يكون ممن يروى عن الإسرائيليات إذا أخبر بأمور غيبية من قوله، فما بالك بالتابعي. وعلى كل حال فهذا البحث من المباحث الأصولية الحديثية التي ينبغي أن تحرر من أقوال المجتهدين، وعمل المحدثين.
فالشاهد هل هذا الاختلاف يؤثر في الحديث أم لا؟
قد يقال: لا يؤثر؛ لأن الاختلاف إذا اختلف مخرج الحديث لا يعل الموقوف المرفوع، بل ربما يقويه. ووجهه:
عندنا رواية مجاهد فيها اختلاف:
فقيل: عن مجاهد يذكر عن ابن عباس.
وقيل: عن مجاهد من قوله. والراجح من رواية مجاهد أنها من قوله؛ لأنها أقوى إسنادًا.
أما رواية عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فهي طريق آخر لم يأت من طريق مجاهد، فيكون الحديث من هذا الطريق محفوظًا. وهذا القول وجيه جدًّا.
وأما حديث أبي هريرة فضعيف جدًّا؛ لأن في إسناده راويًا مجهولًا عينًا.
وأما مرسل الحسن، فهو ضعيف أيضًا فيه علتان: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كونه مرسلًا، وفي إسناده من تكلم فيه.
وقد يقال: إن هذا الاختلاف مؤثر فيه:
ذلك أن طريق مجاهد وطريق سعيد بن جبير، كلاهما قيل فيه عن ابن عباس.
ومع ذلك ثبت عن مجاهد من قوله.
وعبد الكريم تارة ينسب إلى الجزري الثقة في طريق عبيد الله بن عمرو الرقي.
وتارة ينسب إلى ابن أبي أمية كما في طريق هشام الدستوائي.
وتارة عن الحسن مرسلًا، وتارة من مسند أبي هريرة،
ولا يكفي أن يكون طريق عبيد الله بن عمرو مستقلًا حتى يكون مقبولًا، فالعلماء يعلون الحديث للمخالفة، ولو كان الطريق مستقلًا، فإذا كان الأكثر أو الأحفظ على إرساله أو وقفه رجح على الموصول والمرفوع، وأقرب مثال على هذا ما رواه ابن أبي شيبة (1/ 171) رقم 1973، وأحمد وغيرهما ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.
فهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وهو طريق مستقل كما أفصح عنه ابن دقيق العيد، فقال في نصب الراية (1/ 180):«ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفًا لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة، لم يشارك المشهورات في سندها» . اهـ
وقال ابن التركماني في الجوهر النقي عن رواية هذيل عن أبي قيس (1/ 284): «ثم إنهما لم يخالفا مخالفة معارضة، بل رويا أمرًا زائدًا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان» . اهـ
ومع كونه طريقًا مستقلًا فقد أعله الأئمة بالمخالفة، وإليك النقول عنهم:
قال أبو داود في السنن (159): كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين.
وذكر البيهقي بسنده أن عبد الرحمن بن مهدي، قال لسفيان: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هذيل ما قبلته منك. فقال سفيان: الحديث ضعيف، أو واه أو كلمة نحوها.
وساق البيهقي بسنده عن محمد بن يعقوب، قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، وقال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي أبى أن يحدث به، ويقول: هو منكر.
وساق البيهقي أيضًا بسنده عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح، رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هذيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس. =
• وأجيب بأجوبة:
الأول: ضعف الحديث؛ لأن في إسناده اختلافًا، وقد ناقشت هذا في التخريج.
قال أبو حفص الموصلي: قد ورد: (يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، لا يريحون رائحة الجنة)، ولا يصح في هذا الباب شيء غير قوله في حق أبي قحافة:(وجنبوه السواد) والجواب عنه من وجهين: ثم ذكرهما
(1)
.
الجواب الثاني:
أن الوعيد الشديد ليس على الصبغ بالسواد، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر، كما قال الحافظ ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له
(2)
، وابن الجوزي كما
= وروى البيهقي أيضًا من طريق المفضل بن غسان، قال: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس.
وقال النسائي في السنن الكبرى (1/ 83) قال أبو عبد الرحمن: ما نعلم أحدًا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين.
فهذا عبد الرحمن بن مهدي وأحمد وابن معين ومسلم وأبو داود والنسائي رجحوا ضعفه للمخالفة مع اختلاف الطريق، ولم يخرجه البخاري مع أنه على شرطه، فيظهر أنه لعلة المخالفة.
قال النووي في المجموع بعد أن نقل عن الأئمة المتقدم ذكرهم تضعيفهم للحديث (1/ 500): «هؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة
…
». اهـ
فلم يمنع من إعلال الحديث مع كونه طريقًا مستقلًا، ونرجع لحديثنا فمع هذا الاختلاف لا يمكن للباحث أن يجزم بصحة إسناده، مع أن القول بالتحريم يفتقر إلى إسناد صحيح خال من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع، وأما الذين يرون في مثل هذه المسائل أن الاحتياط التحريم فلم يحسنوا؛ لأن الاحتياط أن يتورع المجتهد عن الجزم بتحريم شيء على الناس بمجرد الشك ولكن لا بد في ما يختاره المجتهد لغيره من اليقين أو غلبة الظن بأن مثل هذا حرام، وأما ما يختار الإنسان لنفسه من باب الاحتياط فالباب واسع، وقد يلزم الإنسان نفسه ما لا يلزمه أهله وولده فضلًا عن الناس، والله أعلم.
(1)
جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب (ص: 477).
(2)
ذكره عنه ابن حجر في الفتح (10/ 354).
سيأتي عنه، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد، وقد عرفت وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم، فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضاب بالسواد؛ إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذكر قوله في آخر الزمان فائدة، فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح.
قلت: قد يكون فائدة ذكر آخر الزمان أنه يكثر فيه، وينتشر، بخلاف ما وجد في العصر الأول، فإن الصبغ من آحادهم، وعلى كل حال هذا تأويل للنص والذي ينبغي على طالب العلم أن يترك تأويل النصوص وحملها على خلاف الظاهر، وإذا كنا نعيب على أهل البدع تأويل نصوص الصفات، فكيف نسمح لأنفسنا أن نقبل به هنا، وما الفائدة من ذكر هذا الخبر إذا كان على معصية لم تعلم، ويكون الخبر لغوًا لا فائدة فيه؛ لأننا لا نعلم جرمهم لنتقيه، غاية ما فيه أن في آخر الزمان قومًا لايريحون رائحة الجنة، ثم القاعدة الأصولية: أن الحكم إذا رتب على وصف فإنه يدل على أن الوصف علة في الحكم، فلو قال قائل: إن قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ)[النور: 2].
لو قال: إن الجلد ليس على الزنا، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر هل يمكن أن يقبل ذلك منه؟
الثالث: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث الخضب به لغرض التلبيس والخداع، لا مطلقا جمعًا بين الأحاديث المختلفة، وهو حرام بالاتفاق
(1)
.
قال ابن الجوزي: إنما كرهه - يعني الصبغ بالسواد - قوم لما فيه من التدليس، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذا لم يدلس، فيجب به هذا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد، ثم نقول على تقدير الصحة يحتمل أن يكون المعنى: لا يريحون ريح الجنة لفعل
(1)
تحفة الأحوذي (5/ 359، 360).
صدر منهم أو اعتقاد، لا لعلة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم، فعرفهم بالسيما، كما قال في الخوارج: سيماهم التحليق، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام
(1)
.
الجواب الرابع عن الحديث:
لقد صبغ جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالسواد، أيكون الصبغ متوعدًا عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون؟!!، ولا ينقل إنكار من الصحابة رضوان عليهم، وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم.
• وأجيب:
بأننا إنما نحتاج إلى الرد إلى أقوال الصحابة وأفعالهم فيما لم يرد فيه نص، أما ما ورد فيه نص فلا يحتاج الأمر إلى الرجوع إلى أفعال الصحابة، قال تعالى:(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[النساء: 59]، فإذا كانت السنة واضحة صريحة فلا ترد إلى غيرها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك مسائل كثيرة خالف فيها بعض الصحابة النص المتفق عليه، ومع ذلك لم يقدح هذا في النص، أرأيت إلى لبس خاتم الذهب جاء فيه النص واضحًا بتحريمه، ومع ذلك جاء عن عدد من الصحابة كانوا يلبسون خاتم الذهب، فهل كان ذلك علة في رد النص؟
وقد يقال: إن الرجوع إلى فهم الصحابة يتعين لفهم النص، وفهمهم أولى من فهم غيرهم، فيحمل على أن النهي للكراهة لمخالفتهم النهي، لكن يشكل عليه قوله في الحديث:(لا يرح رائحة الجنة) لا يقال مثل هذا في المكروه، والله أعلم.
الجواب الخامس:
أن العقوبة الواردة في الحديث مبالغ فيها، وقد يكون من أسباب ضعف الحديث
(1)
الموضوعات (3/ 230).
أن يرتب على العمل اليسير ثواب عظيم، أو عقاب كبير كما ذكر ذلك العلماء، وهذا يقال هنا لأن الإسناد ليس من القوة
(1)
، فالتحريم نحتاج للقول به إلى إسناد صحيح خال من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع.
• وأجيب:
بأن الشرع هو الذي يقدر أن الذنب يسير أو عظيم، ولذلك ورد وعيد شديد في المسبل إزاره،
(2234 - 185) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار، قالوا: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن خرشة بن الحر،
عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟
(1)
قال ابن القيم في المنار المنيف: سئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟
فأجاب رحمه الله: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه، ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز مما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم. المنار المنيف (ص: 43) فلا يقطع بضعف الحديث لمجرد عظم الثواب أوالعقاب إلا من الجهبذ البصير بالعلل من أئمة علل الحديث كأحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين، وابن المديني والبخاري ونحوهم.