الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسود، فلما أذن في الحناء والكتم دل على إذنه بالأسود، لكن قد يكون الحناء له نفع للبشرة والشعر، فخص بالنص، وهو دليل على جوازه بغير الحناء والكتم مما يعطي لونهما. والله أعلم.
•
دليل القائلين بأنه يجوز للمرأة دون الرجل:
قالوا: إن الزينة للمرأة مطلوبة، ولذلك جاز لها خضاب اليدين والرجلين، ولا يجوز ذلك في حق الرجل، وجاز لها لبس الذهب دون الرجل، والأحاديث الواردة إنما ثبتت في حق الرجل، كحديث:(وجنبوه السواد) وحديث يكون قوم آخر الزمان يخضبون بهذا السواد، قد جاء في بعض الفاظه:(يخضبون لحاهم بالسواد). والله أعلم.
هذا بعض ما وقفت عليه من أدلة الفريقين، والقول بالتحريم قول قوي، والقول بالكراهة أقوى، وهو قول السواد الأعظم من الأمة، بل إن التحريم إنما هو وجه عند بعض أصحاب الشافعي فقط، والوجه الآخر مكروه فحسب. وما عداهم من المذاهب الأربعة بين مجيز وكاره.
فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن يريان الجواز، وقال ابن عابدين: ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية. وهذا مالك يقول: لا أعلم فيه شيئًا.
وهذا الإمام أحمد يكره الصبغ، ويفسرها أكثر أصحابه بأنها كراهة تنزيه.
والصواب أن كل ما قيل: مكروه في كتب المذاهب الفقهية، ولم نعلم أنهم يريدون به كراهة التحريم، فإنه يحمل على كراهة التنزيه:
أولًا: لأن اصطلاح الكراهة عند الفقهاء يختلف اصطلاحه في نص الشارع، وإنما اشتهر هذا المصطلح أعني إطلاق الكراهة على كراهة التنزيه عند الفقهاء.
ثانيًا: أنهم صرحوا بالمقصود به، فلا نتكلف في صرفه
(1)
.
(1)
قال في الفتاوى الهندية: «وعن الإمام - يعني أبا حنيفة - أن الخضاب حسن بالحناء والكتم =
وقد حاولت قدر الإمكان عرض أدلة الفريقين بكل حياد؛ لأن نصوص المعرفة
= والوسمة. وسبق لنا معنى الوسمة أنها الصبغ بالسواد.
والخلاف بين أصحاب أبي حنيفة دائر بين الجواز، وبين الكراهة كراهة تنزيه فقط. فأبو يوسف ومحمد بن الحسن على الجواز، وصححه ابن عابدين، وهو ظاهر عبارة الإمام في وصفه الصبغ بالوسمة أنه حسن.
وقال مالك عن الصبغ بالأسود: لم أسمع فيه شيئًا معلومًا، وغيره ذلك من الصبغ أحب إلي.
وقال في حاشية العدوي (2/ 445): «ويكره صباغ الشعر الأبيض وما في معناه من الشقرة بالسواد من غير تحريم.
وقول مالك: وغيره من الصبغ أحب إلي علله الباجي بقوله: لأنه صبغ لم يصبغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم أصحابه من هذه اللفظة كراهة التنزيه، واللفظة لا تقتضيه؛ لأن الكراهة حكم شرعي، وما دام لم يسمع فيه شيئًا فينبغي أن تفسر أن غيره من الصبغ مستحب، وأما هو فلم يصل إلى درجة الاستحباب، وذلك لأنه لم يسمع فيه شيئًا.
وبدليل أن أشهب روى عنه في العتبية: ما علمت أن فيه النهي، وإذا كان لم يعلم فيه نهيًا كيف يكون مكروهًا في المذهب، والله أعلم.
وقال في الفواكه الدواني (2/ 307): «ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم» .
وقال في الرسالة: ويكره صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم، انظر أسهل المدارك (3/ 364). وإذا نص على أنه من غير تحريم، كيف تحمل الكراهة عند أصحاب مالك على كراهة التحريم.
وقال ابن مفلح في الفروع (1/ 131): «ويكره بسواد، وفاقًا للأئمة، نص عليه، وفي المستوعب والتلخيص والغنية في غير حرب، ولا يحرم» : أي أن هذه الكتب الثلاثة نصت على أنه لا يحرم، ولذلك قال في الإنصاف: وقال في المستوعب والغنية والتلخيص: يكره بسواد في غير حرب، ولا يحرم». انظر الإنصاف (1/ 123).
وقال في الآداب الشرعية (3/ 337): ويكره بالسواد نص عليه، ثم قال: ويحرم بالسواد على الأصح عند الشافعية. فهنا فرق بين المكروه في مذهب الحنابلة وبين الحرام في مذهب الشافعية.
وقال أيضًا: والكراهة في كلام أحمد هل هي للتحريم أو التنزيه؟ على وجهين.
يقصد أن لفظ الكراهة إذا جاء عند أحمد فأصحابه مختلفون في تفسيرها على وجهين.
وقال في مطالب أولي النهى (1/ 89): وكره تغيير الشيب بسواد في غير حرب، وحرم لتدليس. وقال مثله في كشاف القناع (1/ 77).
فهنا واضح أن الكراهة كراهة تنزيه لاختلاف الحكم بين فعله من غير تدليس فيكره، أو يفعل للتدليس فيحرم.
حق للقارئ، لا يجوز إذا رجحت قولًا أن أغمط أدلة القول الآخر؛ ولأن فهم النص قد أُوافَق عليه وقد أُخَالف، وفرق بين رأي العالم واجتهاده وبين النص؛ لأننا لو جعلنا فهم النص بمنزلة النص ألغينا الاجتهاد، والعصمة إنما هي للنص، وليست لفهم النص، فلا يخلط بينهما، فيبقى على طالب العلم أن يذكر النصوص، والقارئ يرجح ما يراه، ولا ينبغي أن نصادر حق القارئ بالترجيح، فأتحامل فأسوق كل دليل أراه يؤيد رأيي، ولو كان بتأويل سائغ أو غير سائغ، وأغض الطرف عن أدلة القول الآخر بسبب أنه لم يترجح لي، وأتكلف التأويل، ورحم الله ابن القيم فإنك حين تقرأ له مسألة خلافية، يجمع لكل قول ما يمكن أن يكون مؤيدًا له، ويسوق له الأدلة من هنا وهناك حتى تظن أنه يرى هذا القول، ثم في آخر الأمر يتبين لك أنه لا يراه، ولكن فرق بين أن أعطي كل قول حقه من الأدلة، وبين أن أغمط أدلته خشية أن يترجح لغيري خلاف ماترجح لي.
وأحكام الإسلام منها ما هو واضح بين، ومنها ما هو خفي، وهو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:(الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) فبعض المسائل من الأمور المتشابهة، والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفرغ وسعه في فهم النص ودلالته، وليست كل مسألة يكون الفرق بين القولين فيهما كما بين السماء والأرض، ففي أحيان كثيرة يكون الترجيح هو اطمئنان النفس وميلها إلى أحد القولين، وهذا الميل يكفي في ترجيح أحد القولين؛ ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولكن إذا كانت المسألة كذلك ينبغي أن يتورع الإنسان من الطعن في أي من الأقوال المحتملة، والله أعلم.
وإني حين أرجح كراهية تغيير الشيب بالسواد، ذلك لأن ما يختاره الإنسان للناس غير ما يختاره الإنسان لنفسه، فإن على الباحث أن لا يوقِّع بتحريم شيء إلا وقد ظهر له ظهورًا جليًا من نص صريح لا خلاف في ثبوته، وذلك لأنه يخبر عن حكم الشرع، لا عن سلوك يرتضيه لنفسه، والاحتياط ليس في جانب المنع، بل الاحتياط
هو أن لا يتجرأ أحد على التحريم إلا بدليل صريح صحيح، فمن ظهر له هذا، فهو وذاك، ومن لم يظهر له، فمن أين يقوله، والله سبحانه وتعالى يقول:
(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)[الأنعام: 116] بل إن التحريم أشد من الإباحة، وذلك أن الإباحة لا تحتاج إلى دليل، لأنها الأصل بخلاف التحريم.
* * *