الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 - باب وجوب الوقوف بعرفة
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة: 199].
• عن عائشة، قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمّون الْحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلمّا جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالي:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199].
متفق عليه: رواه البخاريّ في التفسير (4520)، ومسلم في الحج (1219) كلاهما من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فذكرته.
وفي رواية ابن ماجه (3018): "نحن قواطن البيت، لا نجاوز الحرم. فأنزل الله عز وجل". وفي لفظ الترمذي: "نحن قطين الله".
قال الترمذيّ: ومعنى هذا الحديث أنّ أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم، وعرفة خارج من الحرم. وأهل مكة كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين الله، يعني سكان الله، ومَنْ سوي أهل مكة كانوا يقفون بعرفات، فأنزل الله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ".
• عن عروة قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراةً إلّا الْحُمْس -والحمس: قريش وما ولدت- كانوا يطوفون عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجالُ الرّجالَ والنّساءُ النساءَ، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس كلهم يبلغون عرفات.
قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قالت: كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون لا نفيض إلا من الحرم فلما نزلتْ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} رجعوا إلى عرفات.
متفق عليه: رواه البخاريّ في الحج (1665) من حديث علي بن مسهر، ومسلم في الحج (1219: 152) من حديث أسامة - كلاهما عن هشام، عن أبيه، فذكره، واللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري قريب منه، وفيه:"فدفعوا إلى عرفات". أي أُمروا أن يتوجّهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها. وسوف يأتي تفسير الآية.
والْحُمْس: بضم المهملة، وسكون الميم بعدها مهملة.
وتفسيره كما روى إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" من طريق ابن جريج، عن مجاهد،
قال: "الحمس قريش ومن كان يأخذ قريش مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب: الشديد، سموا بذلك لما شدّدوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحمًا ولا يضربون وبرًا، ولا شعرًا. وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم".
وروى إبراهيم أيضًا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال: "سموا حُمْسًا بالكعبة؛ لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمّس تشدّد، ومنه حمس الوغى إذا اشتدّ".
• عن جبير بن مطعم، قال: أضللتُ بعيرًا لي، فذهبتُ أطلبه يوم عرفة، فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا مع الناس بعرفة. فقلتُ: واللهِ، إنّ هذا لمن الحمس، فما شأنه ههنا؟ وكانتْ قريش تُعدُّ من الحمس.
متفق عليه: رواه البخاريّ في الحج (1664)، ومسلم في الحج (1220) كلاهما من طريق سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو (هو ابن دينار)، حدثنا محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، فذكره.
والتحقيق في هذا أن قصة جبير بن مطعم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت في الجاهلية. وأسلم جبير بن مطعم يوم الفتح وكان ذهابه إلى عرفة ليطلب بعيره الشارد لا ليقف بها.
ويؤكّد هذا ما رواه ابن خزيمة في صحيحه كما في الحديث الآتي.
• عن جبير بن مطعم قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف على عرفة. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم يدفع إذا دفعوا.
حسن: رواه ابن خزيمة (2823) عن نصر بن علي، أخبرنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن محمد ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عمه نافع بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، فذكره.
وإسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق فإنه يُحسّن حديثه إذا صرّح.
ورواه أيضًا (3057) من وجه آخر عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بإسناده وقال فيه:"لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس يدفع معهم منها، ما ذاك إلا توفيقًا من الله".
وهذا إسناد حسن أيضًا، كما جاء التصريح بالتحديث عن ابن إسحاق في الرّواية السّابقة.
فقوله: "قبل أن ينزل عليه" أي قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فالنبيّ صلى الله عليه وسلم -
كان يقف بعرفات قبل نزول الآية.
وفيه دليل لقوله: "ما ذاك إلا توفيقًا من الله" أي تقريرًا من الله سبحانه وتعالى لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جبير بن مطعم: "فلما أسلمت علمتُ أن الله وفّقه لذلك".
هكذا رواه إسحاق بن راهويه عن الفضل بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء، أن جبير بن مطعم قال:"أضللت حمارًا لي في الجاهلية فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفات مع الناس، فلما أسلمتُ علمت أن الله وفقه لذلك". انظر الفتح (3/ 516).
• عن ابن عباس قال: يطوفُ الرّجلُ بالبيت ما كان حلالًا حتى يهلّ بالحجّ، فإذا ركب إلى عرفةَ فمن تيسر له هَديَّةٌ من الإبل أو البقر أو الغنم، ما تيسر له من ذلك، أيَّ ذلك شاء، غير أنه إن لم يتيسر له فعليه ثلاثةُ أيّام في الحجّ، وذلك قبل يوم عرفة، فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يومَ عرفة فلا جناح عليه، ثم لِينطلقْ حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام، ثم لِيدفعوا من عرفات إذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جَمْعًا الذي يبيتون به، ثم ليذكرِوا الله كثيرًا، وأَكْثِرُوا التكبير والتهليل قبل أن تُصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يُفيضون، وقال الله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] حتى تَرْمُوا الجمرة.
صحيح: رواه البخاريّ في التفسير (4521) عن محمد بن أبي بكر، حدّثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، أخبرني كريب، عن ابن عباس، فذكره.
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [سورة البقرة: 199] فظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من المزدلفة؛ لأنّها ذكرت بلفظ "ثم" بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، فأجاب بعضُ المفسّرين بأنّ الأمر بالذّكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير: فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون. أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس.
واختار الطّحاويّ أن "ثم" بمعنى الواو، وليس للترتيب، فيكون معناه لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب. والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضون منها من حيث أفاض الناس يعني من عرفات لا من حيث كنتم تفيضون في الجاهلية من المزدلفة، وقيل غير ذلك. انظر "الفتح".
وأما الإفاضة من عرفات وكون الحجّ لا يتم إلّا بالإفاضة منها فتكفي الآية السابقة وهي قوله تعالي: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [سورة البقرة: 198].
إلّا أن حمل الآية على ظاهرها لا يتمشى مع الأحاديث الصحيحة الواردة في الباب، والله تعالى أعلم.
ومن المفسرين مَنْ قالوا بظاهر الآية بأنّ الأمر بالإفاضة في قوله تعالى بأنّ الإفاضة هنا من المزدلفة حيث أفاض الناس - أي جنس سواء كان كانوا في الجاهليّة منذ إبراهيم عليه السلام أو في الإسلام بعد مشروعية الحجّ.
• عن عبد الرحمن بن يعمر الدّيليّ، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فجاء ناسٌ أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلًا فنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الحج؟ فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فنادى: "الحجّ يوم عرفة من جاء قبل صلاة الصّبح من ليلة جمع فتمَّ حجُّه أيام منى ثلاثة: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: ثم أردف رجلا خلفه فجعل ينادي بذلك.
صحيح: رواه أبو داود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (210)(3047)، وابن ماجه (3015) كلّهم من حديث سفيان الثوريّ، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الدّيليّ، فذكره واللفظ لأبي داود.
رواه الإمام أحمد (18774)، وصحّحه ابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/ 464) كلّهم من هذا الطّريق.
قال الترمذيّ: "هذا أجود حديث رواه سفيان الثوريّ".
وقال أيضًا: "وقد روي شعبة عن بكير بن عطاء نحو حديث الثوريّ. قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعًا أنه ذكر هذا الحديث فقال: هذا الحديث أمُّ المناسك".
وصحّحه الحاكم على شرط الشيخين.
• عروة بن مضرس الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف -يعني بجمع- قلت: جئت يا رسول الله من جبل طي أكلَلْت مطيتي وأتعبتُ نفسي، والله! ما تركت من حبل إلا وقفتُ عليه! فهل لي من حجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك معنا هذه الصّلاة، وأتي عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجُّه وقضى تفثه".
صحيح: رواه أبو داود (1950)، والترمذيّ (891)، والنسائيّ (3039)، وابن ماجه (3016) كلّهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، حدّثنا عامر الشعبيّ، عن عروة بن مضرس، فذكر الحديث.
ومنهم من قرن مع إسماعيل بن أبي خالد زكريا -وهو ابن أبي زائدة-، ومنهم من قرن معهما
داود بن أبي هند، هؤلاء الثلاثة عن عامر الشعبي بإسناده.
قال الترمذي: حسن صحيح.
ومن هذا الوجه رواه أيضًا الإمام أحمد (18300) وصحّحه ابن خزيمة (2820)، وابن حبان (3850)، والحاكم (1/ 463) وقال:"هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث، وهي قاعدة من قواعد الإسلام. وقد أمسك عن إخراجه الشّيخان محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجّاج على أصلهما أنّ عروة بن مضرس لم يحدّث عنه غير عامر الشعبيّ، وقد وجدنا عروة بن الزبير بن العوّام حدّث عنه".
وقال المروزيّ في اختلاف العلماء (ص 90): "روى عنه أيضًا إبراهيم والحسن".
على هذا فلا أرى أن عدم إخراج الشيخين كان بسبب تفرّد الشعبيّ عن عروة بن مضرس، إذ ليس من شرط الشيخين أن يروي الحديث اثنان فما فوقهما.
وخالفهم جميعًا مطرف بن طريف، عن الشعبيّ بإسناده فقال:"من أدرك جمعًا والإمام واقف، فوقف مع الإمام، ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحجّ، ومن لم يدرك فلا حجّ له".
رواه النسائيّ (3040)، والطحاويّ في "مشكله"(4688) كلاهما من وجهين، عن مطرف بن طريف - واللفظ للطّحاويّ، ولفظ النّسائيّ نحوه.
قال الطّحاويّ: "فتأملنا هذا المعنى الذي زاده مطرِّف عن الشعبي على أصحاب الشعبي في هذا الحديث بعد وقوفنا على أن فقهاء الأمصار الذين تدور الفتيا عليهم بالحرمين، وبسائر الأمصار سواهما لا يختلفون أنّ من فاته الوقوف بجمع، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك، أنه ليس في حكم من فاته الحج، وأنه قد أدرك الحجَّ، وقد فاته منه ما يكفيه عنه الدّم، غير طائفة منهم قليلة العدد، فإنّها زعمتْ أنّ من فاته الوقوف بجمع في حجّه بعدما يطلعُ الفجر، فقد فاته الحجُّ، وجعلوا فوتَ الوقوف بجمع قبل طلوع الفجر، كفوت الوقوف بعرفة في الحج حتى يطلع الفجر، ولا نعلم أحدًا ممن تقدَّمهم رُوي عنه هذا القول غير علقمة بن قيس" انتهي.
وذكر ابن عبد البر في "التمهيد"(9/ 272) أنّ القائلين بهذا القول مع علقمة: عامر الشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، والحسن البصريّ، قالوا: من لم ينزل بالمزدلفة وفاته الوقوف بها فقد فاته الحج، ويجعلها عمرة. وهو قول عبد الله بن الزبير، وبه قال الأوزاعي أنّ الوقوف بالمزدلفة فرض واجب يفوت الحج بفواته، وقد رُوي عن الثوري مثل ذلك ولا يصح عنه. والأصح عنه إن شاء الله ما قدمنا ذكره.
وروي عن حماد بن أبي سليمان أنه قال: من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحجّ فلحل بعمرة ثم يحجّ قابلًا" انتهى.
• عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات فوقف بها والمزدلفة