الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
120 - باب ما جاء في طواف الإفاضة يوم النّحر وهل منْ لم يطُفْ يوم النّحر يعود محرمًا
؟
قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سورة الحج: 29]
وهذا الطواف يسمى طواف الإفاضة ويسمى أيضًا طواف الحج والزيارة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، وهذا لا خلاف فيه، وعليه يدل ظاهر القرآن.
• عن عائشة، قالت: حججنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النّحر.
متفق عليه: رواه البخاريّ في الحج (1733) من طريق الأعرج (هو عبد الرحمن بن هرمز)، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، فذكرته.
ورواه مسلم في الحج (1211: 120) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، فذكرته بطوله، وفيه قالت:"فلما كان يوم النحر طهرتُ، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت".
• عن عبد الله بن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النّحر، ثم رجع فصلّي الظهر بمني.
قال نافع: فكان ابن عمر يُفيض يوم النّحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكرُ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعله.
صحيح: رواه مسلم في الحج (1308) عن محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
ورواه البخاريّ في الحج (1732) موقوفًا قائلًا: وقال لنا أبو نعيم (هو الفضل بن دكين) حدّثنا سفيان، عن عبيد الله (هو ابن عمر)، عن نافع، عن ابن عمر، أنه طاف طوافًا واحدًا، ثم يقيل، ثم يأتي مني يعني يوم النّحر.
ثم قال البخاريّ: ورفعه عبد الرزاق، أخبرنا عبيد الله (يعني ابن عمر).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 568): "وصله ابن خزيمة، والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق، بلفظ أبي نعيم وزاد في آخره: "ويذكر (أي ابن عمر) أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله".
قلت: وفاته رحمه الله عزوه إلى مسلم موصولًا كما ترى.
• عن جابر بن عبد الله، قال: . . . . ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلَّى بمكة الظّهر. . . . الحديث.
صحيح: رواه مسلم في الحج (1218) من طريق حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر، فذكره في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
• عن عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلّي الظهر، ثم رجع إلى مني فمكث بها ليالي أيام التشريق
…
الحديث.
حسن: رواه أبو داود (1973) من طرق، عن أبي خالد الأحمر، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، فذكرته.
وإسناده حسن، فيه محمد بن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث عند ابن حبان (3868)، كما سيأتي تخريجه تامًا بعد أبواب.
قول جابر: "فصلّي بمكة الظّهر" وفي حديث ابن عمر السابق أنه "رجع فصلّي الظّهر بمني".
فذهب بعض أهل العلم إلى ترجيح حديث جابر، ويؤيده حديث عائشة، فيما نقله عنهم الإمام ابن القيم في زاد المعاد (2/ 280 - 283).
ومن أهل العلم من جمع بينهما كالنّووي في شرحه لصحيح مسلم (8/ 192) حيث قال: "ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلّى الظهر بمكة في أوّل وقتها، ثم رجع إلى منى فصلّي بها الظّهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمني
…
".
ونقله عنه الشّوكانيّ في "نيل الأوطار"(3/ 427) ثم قال: "وذكر ابن المنذر نحوه، ويمكن الجمع بأن يقال: إنه صلّى بمكة، ثم رجع إلى مني، فوجد أصحابه يصلون الظهر فدخل معهم متنقلًا؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك لمن وجد جماعة يصلّون وقد صلّي".
وأمّا ما رُوي عن عائشة، وابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخّر طواف يوم النّحر إلى اللّيل فهو ضعيف.
رواه أبو داود (2000)، والترمذي (920)، وابن ماجه (3059)، وأحمد (2611، 2612)، والبيهقي (5/ 144) كلّهم من طرق عن سفيان، عن أبي الزبير، عن عائشة، وابن عباس، فذكراه. قال الترمذي: حسن صحيح.
وهو كما قال، وظاهر الإسناد إلى ابن عباس صحيح، وأما إلى عائشة ففيه انقطاع بين أبي الزبير وعائشة، وفي الحديث أيضا علة خفية وهي أنه يخالف الأحاديث الصحيحة الثابتة التي سبق ذكرُها أفاضَ يوم النحر، وصلى الظهر بمنى، فلعل ذلك يعود إلى تدليس أبي الزبير بأنه سمع ذلك عن بعض الضعفاء ودلّسه.
قال الترمذيّ عقب ذكر الحديث: "وقد رخّص بعض أهل العلم في أن يؤخر طواف الزّيارة إلى اللّيل، واستحب بعضهم أن يزور يوم النحر، ووسْع بعضهم أن يؤخر ولو إلى آخر أيام مني" انتهى.
وأمّا من لم يطف يوم النّحر فهل يعود محرمًا؟ فالصحيح أنه لا يعود محرمًا وبه قال جمهور أهل العلم من الصّحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما ما رُوي عن أمّ سلمة رضي الله عنها فهو مخرَّج في المنة الكبرى (4/ 284 - 288)، ولكن أعيده هنا لأهميته مع مزيد من التوضيح والتعليق.
قالت أمّ سلمة رضي الله عنها: كانت ليلتي التي يصير إليَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النّحر، فصار إليَّ ودخل عليَّ وهبُ بن زمعة، ومعه رجل من آل أبي أميّة مُتقمِّصين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب:"هل أفضتَ يا عبد الله؟ ". قال: لا والله يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: "انْزعْ عنك القميص". قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: لِمَ يا رسول الله؟ قال: "إنّ هذا يوم رُخَّص لكم إذا رميتم الجمرة أن تحلُّوا -يعني من كلّ ما حرمتم منه إلّا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حُرُمًا كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، قبل أن تطوفوا به".
رواه أبو داود (1999) عن الإمام أحمد ويحيى بن معين -المعنى واحد- وهو في مسنده (26530)، وابن خزيمة (2958)، والحاكم (1/ 489)، والبيهقيّ (5/ 137) كلّهم من حديث محمد بن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، وعن أمّه زينب بنت أبي سلمة، بحدّثانه ذلك جميعًا عن أمّ سلمة، قالت (فذكرته).
ومحمد بن إسحاق وإن كان صرَّح فإنه لا يقبل في السنن إذا انفرد كما قال الإمام أحمد.
قال أيوب بن إسحاق بن سامري: سألت أحمد فقلت له: يا أبا عبد الله إذا انفرد ابن إسحاق بحديث تقبل؟ قال: لا والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا.
وقال أبو داود: سمعت أحمد وذُكر عنده محمد بن إسحاق فقال: كان رجلًا يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه.
وقال عبد الله: لم يكن يحتج به أبي في السنن.
وهذا الحديث مما انفرد به ابن إسحاق ولم يُعمل به. قال البيهقيّ: "لا أعلم أحدًا من الفقهاء يقول بذلك".
وأمّا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، فقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال أبو زرعة: لا أعرف أحدًا سمّاه، وكذلك قال أبو حاتم، ولم يذكر المزيّ توثيقه من أحد، بل قال الحافظ في "التقريب":"مقبول". وهو مشعر إلى جهالة حاله وإن كان روي له مسلم كما قال المزي عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده -يعني الليث-، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، أنّ أمّه زينب بنت أبي سلمة أخبرته، أنّ أمها أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت تقول (فذكرت قصة رضاع الكبير).
قلت: أخرجه مسلم متابعًا لحديث حميد بن نافع يقول: سمعت زينب بنت أبي سلمة تقول: سمعت أم سلمة تقول (فذكر قصة سهلة بنت سهيل في إرضاع سالم).
فصحَّ قول الحافظ ابن حجر: "مقبول" أي إذا توبع، وقد توبع.
وأما في الحديث الذي أنا في صدده فمع تفرده وقع في إسناده اضطراب. فقد رواه أيضًا الإمام
أحمد (26531) فقال: قال محمد (يعني ابن أبي عدي)، قال أبو عبيدة: وحدثتني أمّ قيس ابنة مِحصن -وكانت جارة لهم- قالت: خرج من عندي عُكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمّصين عشيّة يوم النّحر، ثم رجعوا إليَّ عشاء، قمصُهم على أيديهم يحملونها. قالت: فقلت: أي عكاشة، مالكم خرجتم متقمِّصين، ثم رجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: خيرًا يا أمَّ قيس، كان هذا يومًا قد رُخَّص لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة، حللنا من كل ما حُرمنا منه إلّا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطُف به، صرنا حرمًا كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة، حتى نطوف به، فأمسينا ولم نطف، فجعلنا قُمُصنا كما ترين".
فجعل محمد بن أبي عدي يروي عن أبي عبيدة بدون ذكر محمد بن إسحاق بينه وبين أبي عبيدة، وأبو عبيدة يقول: حدثتني أم قيس ابنة محصن ولم يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أمّ قيس بنت محصن، قالت: دخل عليَّ عكاشة بن محصن وآخر في منى مساء يوم الأضحي فنزعا ثيابهما وتركا الطيب، فقلت: ما لكما؟ فقالا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لنا: "من لم يُفضْ إلى البيت من عشيته، فليدع الثّياب والطّيب".
رواه الطّحاويّ في شرح المعاني (3942) من طريق عبد الله بن يوسف، عن ابن لهيعة. ورواه أيضًا من طريق ابن أبي مريم، نا عبد الله بن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة، عن جدامة بنت وهب -أخت عكاشة بن وهب-، أنّ عكاشة بن وهب صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخا له آخر جاءها حين غابت الشمس يوم النحر، فألقيا قميصهما فقالت: ما لكما؟ فقالا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يكن أفاض من هنا فليلق ثيابه". وكانوا تطيّبوا ولبسوا الثياب.
فجعل فيه عكاشة بن وهب، وهذا كلّه من تخليط ابن لهيعة، وفيه كلام معروف. وجدامة بنت وهب، ويقال: جندل، ويقال: جندب الأسدي أخت عكاشة بن محصن لأمه، صحابية لها سابقة وهجرة. قال الدارقطني: من قالها بالذال المعجمة صحَّف.
ثم هل الحديث من مسند جدامة بنت وهب، أم من مسند أم قيس بنت محصن، أم من أمّ سلمة؟ وهل عكاشة هو ابن محصن أم ابن وهب؟ وهذا اضطراب واضح في الإسناد، ووجود ابن لهيعة في الإسناد قرينة قوية لهذا الاضطراب.
ولذا قال الحافظ في الإصابة (2/ 488): "وقد اختلف فيه على ابن لهيعة" ثم أخرج حديث الطحاويّ عن أمّ قيس وقال: "وكأنّ هذا أصح، وقد جاء الحديث من وجه آخر عنها أخرجها الحاكم من طريق ابن إسحاق، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، حدثتني أمُّ قيس بنت محصن" فذكر الحديث مختصرًا.
قلت: فمثل هذا الحديث مع تفرده واضطرابه في إسناده لا يقبل في مثل هذا الحكم الذي نعمّ به البلوى، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال مخاطبًا أصحابه:"خذوا عني مناسككم"، فلا ينبغي أن يخفى