الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال القاسم وسالم: "من وقف بعرنة حتى دفع فلا حج له".
وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشّافعي، قال: وبه أقول لأنه لا يجزئه أن يقف مكانا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقف به" انتهى. (13/ 13).
وقال النووي في "المجموع"(8/ 120): "لو وقف ببطن عرنة لم يصح وقوفه عندنا، وبه قال جماهير العلماء. وحكى ابنُ المنذر وأصحابُنا عن مالك أنه يصح ويلزمه دم. وقال العبدريّ: هذا الذي حكاه أصحابنا عن مالك لم أرَه له، بل مذهبه في هذه المسألة كمذهب الفقهاء أنه لا يجزئه. قال: وقد نصَّ أصحابه أنه لا يجوز أن يقف بعرنة".
ثم قال النوويّ -بعد أن سرد أحاديث الباب-: "فتحصل الدّلالة على مالك بثلاثة أشياء: أحدها: الرّواية المرسلة فإنّ المرسل عنده حجّة. والثاني: الموقوف على ابن عباس وهو حجّة عنده. والثّالث: أن الذي قلنا به من تحديد عرفات مجمع عليه والذي يدعيه من دخول عرنة في الحدّ لا يقبل إلا بدليل وليس لهم دليل صحيح ولا ضعيف في ذلك، والله أعلم".
81 - باب فضل يوم عرفة
• عن عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يومٍ أكثر من أَنْ يُعْتق اللهُ فيه عبدًا من النّار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟ ".
صحيح: رواه مسلم في الحج (1348) من طريق ابن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت يونس بن يوسف يقول عن ابن المسيب، قال: قالت عائشة (فذكرته).
• عن طارق بن شهاب: أنّ أُناسًا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر أيَّةُ آيةٍ؟ فقالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فقال عمر: إنّي لأعلمُ أيّ مكان أُنزلتْ؛ أُنزلتْ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة".
متفق عليه: رواه البخاريّ في المغازيّ (4407)، ومسلم في التفسير (3017) كلاهما من طريق سفيان الثوريّ، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، فذكره. واللفظ للبخاريّ.
ولفظ مسلم نحوه، وزاد:"قال سفيان: أشكّ كان يوم جمعة أم لا؟ ".
ثم رواه مسلم من طريق إدريس (هو ابن يزيد الأوديّ)، وأبي عُميس (هو عتبة بن عبد الله المسعوديّ) -فرّقهما- كلاهما عن قيس بن مسلم، به، نحوه. وفيه أنّها نزلتْ في يوم الجمعة، ولم يشكّا.
• عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر من ذي الحجة". قال: فقال رجل: يا رسول الله، هنّ أفضل أمْ عدّتهنّ جهادًا في سبيل الله؟ قال: "هنّ أفضل من عدّتهن جهادا في سبيل الله. وما من يوم أفضل
عند الله من يوم عرفة؛ ينزل الله إلى السّماء الدّنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السّماء فيقول: انظروا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا ضاحين جاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلمْ يُرَ يومٌ أكثرُ عتقًا من النّار من يوم عرفة".
حسن: رواه ابن حبان (3853) من طريق محمد بن مروان العقيليّ، حدّثنا هشام -هو الدّستوائيّ-، عن أبي الزبير، عن جابر، فذكره.
ورواه أبو يعلى (2090)، والبزّار - كشف الأستار (1128) - كلاهما من هذا الوجه.
وإسناده حسن من أجل أبي الزبير -وهو المكي- هو لا بأس في تصريحه للتحديث، وإخراج ابن حبان له في صحيحه دليل على أنه صرّح به في إسناد آخر، كما نصّ على ذلك في المقدمة (1/ 162) قائلًا:"فإن صحَّ عندي خبر من رواية مدلّس أنه بيّن السّماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر".
وذكره ابن خزيمة في صحيحه (2840) من وجه آخر عن مرزوق -وهو أبو بكر-، عن أبي الزبير، عن جابر، مختصرًا. وقال: أنا أبرأ من عهدة مرزوق.
قلت: مرزوق أبو بكر هو الباهليّ البصريّ مولي طلحة بن عبد الرحمن هو ليس ممن يتبرّأ منه، فقد وثّقه أبو زرعة، وروى عنه جماعة من أئمة الحديث ثم هو لم ينفرد بهذا الحديث فقد تابعه هشام الدستوائيّ كما مضى في الإسناد الأول، ثم إذا كان ابن خزيمة يتبرأ من عهدته فهل لم يقف على الإسناد الأول فيخرجه في صحيحه؟ .
• عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله عز وجل يباهي الملائكة بأهل عرفات، يقول: انظُروا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا".
حسن: رواه الإمام أحمد (8047) عن أبي قَطن وإسماعيل بن عمر، قالا: حدّثنا يونس، عن مجاهد أبي الحجّاج، عن أبي هريرة، فذكر الحديث.
وإسناده حسن لأجل يونس، وهو: ابن أبي إسحاق فإنّه حسن الحديث.
وأبو قَطن هو: عمرو بن الهيثم بن قَطن -بفتح القاف- ثقة من رجال مسلم.
وصحّحه ابن خزيمة (2839)، وابن حبان (3852)، والحاكم (1/ 465) كلّهم من طريق يونس ابن أبي إسحاق.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشّيخين".
والصّواب أن يونس بن أبي إسحاق من رجال مسلم وحده.
• عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إنّ الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعْثًا غُبْرًا".
حسن: رواه أحمد (7089) عن أزهر بن القاسم، حدثنا المثني -يعني ابن سعيد-، عن قتادة، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، فذكره.
ورواه أيضًا الطبرانيّ في "الصّغير"(575) من هذا الطّريق.
وإسناده حسن لأجل أزهر بن القاسم، فإنه صدوق.
قال الهيثميّ في "المجمع"(3/ 250): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الصغير" ورجال أحمد موثقون. وبمعناه أحاديث أخرى ولكن كلها ضعيفة. انظر: كتاب الإيمان - جموع أبواب الإيمان بالملائكة.
• عن ابن عمر، قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصاري فقال: "إنْ شئتَ أخبرتُكَ عمَّا جئْتَ تسألُ، وإنْ شئْتَ سألْتَني فأخْبرُكَ". فقال: لا يا نبي الله أخبرني عمّا جئتُ أسألُكَ. قال: "جئتَ تَسْألُني عن الحاجّ ما له حين يخرجُ من بيته؟ وما له حين يقوم بعرفات؟ وما له حين يرمي الجمار؟ وما له حين يحلق رأسه؟ وما له حين يقضي آخر طواف بالبيت". فقال: يا نبي الله! والذي بعثك بالحقّ! ما أخطأتَ مما كان في نفسي شيئًا! قال: "فإنّ له حين يخرج من بيته أن راحلته لا تخطو خطوة إلا كتب له بها حسنة أو حطّت عنه بها خطيئة، فإذا وَقفَ بعرفة فإنّ الله عز وجل ينزل إلى السّماء الدّنيا فيقول: انظُرُوا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا اشهدوا أنّي قد غفرتُ لهم ذنوبهم وإن كان عدد قطر السّماء ورمل عالج. وإذا رمي الجمار لا يدري أحدٌ ما له حتى يوفاه يوم القيامة. وإذا حلق رأسه فله بكل شعرة سقطت من رأسه نور يوم القيامة. وإذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدتْه أمُّه".
حسن: رواه ابن حبان (1887)، والبيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 294)، والبزار -كشف الأستار- (1082) كلّهم من حديث يحيي بن عبد الرحمن الأرحبي، حدثني عبيدة بن الأسود، عن القاسم ابن الوليد، عن سنان بن الحارث بن مصرف، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد، عن ابن عمر، فذكر حديثًا طويلًا، وهذا جزء منه.
وإسناده حسن من أجل يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي فإنه مختلف فيه غير أنه حسن الحديث، وسنان بن الحارث بن مصرف ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 424، 8/ 299) وذكر من الرواة عنه القاسم بن الوليد، ومحمد بن طلحة، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 254)، وزاد من الرواة عنه صالح بن حيي والد حسن بن صالح.
وقال البيهقي: "إسناده حسن".
وقال الهيثمي: "رجال البزار موثقون".
وقال البزار: "وقد رُوي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق".
قلت: وهو كما قال، فقد رواه عبد الرزاق (8830) وعنه الطبرانيّ (3566) عن ابن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: فذكر الحديث بطوله، ولم يسم عبد الرزاق بن مجاهد من هو؟ فإن كان هو عبد الوهاب فقال وكيع: كانوا يقولون: إن عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه. أي فيه انقطاع. ثم هو ضعيف جدًا، كذبه سفيان، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وأما قول ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، فهو ليس على إطلاقه فإنه قد توبع في الإسناد السابق إلا أنه لا يعتبر به من أجل ضعفه الشديد.
فالخلاصة كما سبق قول البزار، وقال أيضًا وقد رُوي عن إسماعيل بن رافع، عن أنس نحو حديث ابن عمر.
قلت: رواه البزار -كشف الأستار (1083) - بإسناده عن إسماعيل بن رافع، عن أنس بن مالك، نحو حديث ابن عمر. وإسماعيل بن رافع ضعيف.
وفي الباب أيضًا ما رُوي عن ابن عباس قال: "كان فلان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، قال: فجعل الفتي يلاحظ النساء وينظر إليهن. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه مرارًا. قال: وجعل الفتي يلاحظ إليهن. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنَ أخي، إنّ هذا يوم مَنْ ملك فيه سمعَه وبصرَه ولسانَه غُفر له".
رواه الإمام أحمد (3041، 3350)، وأبو يعلى (2441)، والطبراني (12974)، وابن خزيمة في صحيحه (2834، 2833) كلهم من طريق سُكين بن عبد العزيز، قال: حدثني أبي، قال: سمعت ابن عباس قال (فذكره).
وفي بعض الروايات أن الفتى هو الفضل بن عباس.
وسكين بن عبد العزيز بن قيس العبدي البصريّ مختلف فيه، فقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: ثقة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. ولكن قال النسائي: ليس بالقوي.
والخلاصة: أنه حسن الحديث؛ ولذا قال فيه الحافظ: "صدوق يروي عن الضّعفاء" فضعفه ليس منه. ولكن أبوه عبد العزيز بن قيس، قال فيه أبو حاتم:"مجهول" ومع هذا ذكره ابن حبان في "الثقات".
وقد تبرّأ منه ومن ولده ابنُ خزيمة، فقال: "أنا برئ من عهدة سُكين بن عبد العزيز وعهدة أبيه، ثم روي بإسناده من وجهين - عن سكين بن عبد العزيز، عن أبيه، بإسناده، مثله.
وذلك بعد أن ذكر قصة الفضل وأنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل ينظر إلى امرأة حسنة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه عنها بدون ذكر الزيادات التي في حديث سكين بن عبد العزيز.
قلت: وهي قصة صحيحة مخرّجة في الصّحيح.
ومن هنا يعرف تساهل المنذريّ في قوله بعد أن أخرج حديث ابن عباس من مسند الإمام أحمد: "بإسناد صحيح".
وفي الباب ما رُوي عن طلحة بن عبد الله بن كريز، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما رؤي الشيطانُ يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرّحمة، وتجاوز الله عن الذّنوب العظام إلّا ما أُرى يوم بدر". قيل: وما رأي يوم بدر يا رسول الله؟ قال: "أما إنّه قد رأى جبريل يزع الملائكة".
رواه مالك في الحجّ (245) وعنه عبد الرزاق (8832) عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله، فذكره. وهو مرسل.
وقوله: "أدحر" بالدال والحاء المهملة - أي أبعد وأذلّ. قال الله تعالى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} [سورة الإسراء: 39] أي مبعدًا من رحمة الله.
وفي الباب عن عباس بن مرداس السلميّ قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لأمّته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: "إنّي قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه". قال: "أي ربِّ إنْ شئتَ أعطيتَ المظلوم من الجنة. وغفرت للظالم". فلم يجب عشيته، فلمّا أصبح بالمزدلفة أعاد الدّعاء. فأُجيب إلى ما سأل. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال: تبسّم-. فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إنّ هذه لساعة ما كنت تضحك فيها! . فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنَّك. قال: "إنّ عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور. فأضحكني ما رأيت من جزعه".
رواه ابن ماجه (3013) عن أيوب بن محمد الهاشميّ، قال: حدّثنا عبد القاهر بن السريّ السّلميّ، قال: حدّثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس السلميّ، أنّ أباه أخبره، عن أبيه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا، فذكره.
ورواه أبو داود (5234) واقتصر على قوله: "ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر أو عمر: "أضحك الله سنك" وساق الحديث. هكذا قال أبو داود.
فقوله: "ساق الحديث" إشارة إلى ذكر الحديث كاملًا.
ورواه الإمام أحمد (16207)، والبيهقي في شعب الإيمان (346) بكامله كلّهم من طريق عبد القاهر بن السري بإسناده، مثله. إلا أنهم قالوا: عن ابن كنانة بن العباس.
وابن كنانة هو عبد الله كما جاء مصرحًا به عند ابن ماجه.
وأخرجه البخاريّ في تاريخه (7/ 2 - 3) وقال: لم يصح حديثه.
قلت: وهو كما قال، فإنّ فيه عبد الله بن كنانة بن العباس، لم يرو عنه غير عبد القاهر، ولذا قال فيه الحافظ:"مجهول".
وأيضًا فيه أبوه كنانة بن العباس بن مرداس، لم يرو عنه سوى ابنه عبد الله، ولذا قال فيه أيضًا الحافظ:"مجهول".
وقال ابن حبان في ترجمة كنانة بن العباس بن مرداس السلمي في المجروحين (2/ 234): "يروي عن أبيه، روى عنه ابنه، منكر الحديث جدًا. فلا أدري التخليط في حديثه منه أو من ابنه، ومن أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى، لعظم ما أتي من المناكير عن المشاهير".
ثم أعاد ذكره في "الثقات"(/ 339) من التابعين فتناقض.
وقال البيهقيّ: "هذا الحديث له شواهد كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب "البعث" فإن صحّ بشواهده فقيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء: 48]، وظلم بعضهم بعضًا دون الشرك" انتهى.
وفيه إشارة إلى ضعف الحديث حتى بشواهده.
وبالغ ابن الجوزيّ فأدخل هذا الحديث في كتابه "الموضوعات"(2/ 214) بناء على كلام ابن حبان في كنانة بن العباس، ولعله لم يقف على كلام ابن حبان في "الثقات".
والخلاصة أنه ضعيف لا موضوع؛ ولذا تعقبه الحافظ ابن حجر في "القول المسدّد"(الحديث السابع)، وذكر له شواهد، ولكن كلها ضعيفة لا يسلم منها شيء، ثم إن هذا الحديث مع ضعفه يدل على عموم غفران الذنوب لمن شهد الموقف منها حقوق العباد.
وقد جاء في الصحيح في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [سورة الحجر: 47] قال: "يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدّنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".
رواه البخاريّ في الرقاق (6535) عن الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، فقرأ الآية الكريمة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، أن أبا سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذكر الحديث).
وقد روي بخلاف حديث العباس بن مرداس:
عن أنس بن مالك قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم عرفة، وكادت الشّمس أن تغرب فقال:"يا بلال، أنصت لي الناس". فقام بلال: فقال: يا معشر الناس أنصتوا. فقال: "أتاني جبريل عليه السلام آنفًا، فأقرأني من ربّي السلام، وقال: إنّ الله قد غفر لأهل عرفات ما خلا التّبعات. أفيضوا باسم الله".
رواه العقيليّ في ترجمة (شبويّه المروزيّ) عن ابن المبارك وقال: "حديثه منكر غير محفوظ".
وقال: وقد روي في هذا المعنى بخلاف هذا اللفظ حديث العباس بن مرداس، وحديث ابن عمر وغيره. وأسانيدها لينة، وفيه عن عائشة وجابر بإسنادين صالحين" انتهى. انظر:"الضعفاء"(2/ 196 - 197).
وقال الذهبي في "الميزان"(2/ 262): "شبّويه عن ابن المبارك" فذكر حديثًا منكرًا، ذكره العقيليّ.
إذا عرفنا لفظ هذا الحديث بأنه يخالف ما رواه العباس بن مرداس عرفنا وهم المنذريّ في "الترغيب والترهيب"(1821) فجعل حديث ابن المبارك موافقًا لحديث العباس بن مرداس ولفظه: "إنّ الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات".
وزاد: "فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ قال: "هذا لكم، ولمن أتي من بعدكم إلى يوم القيامة" فقال عمر: كثر خير الله وطاب" انتهي.
فلعلّه وهم في سوق اللفظ لأنه كان يملي من حفظه كما يظهر من مقدمته.
وفي الباب ما رُوي أيضًا عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الله تطوَّل على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شُعْثًا غُبْرًا، أقبلُوا يضربونَ إليَّ من كلِّ فجٍّ عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنيهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جمع ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله يقول: يا ملائكتي عبادي وقفوا، فعادوا في الرغبة والطّلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأُعطيت محسنيهم ما سألني، وكفلت عنهم التّبعات التي بينهم".
رواه أبو يعلي (1351) عن إبراهيم بن الحجاج النيليّ، حدثنا صالح المريّ، عن يزيد الرّقاشي، عن أنس، فذكره.
ذكره الهيثميّ في "المجمع"(3/ 257) وضعّفه من أجل صالح المريّ.
قلت: صالح المريّ هو: ابن بشير بن وادع المري -بضم الميم وتشديد الراء- ضعّفه ابن معين، وقال البخاريّ: منكر الحديث. وفي التقريب: "ضعيف".
وأما ابن حبان فذكره في الثقات (4/ 374) فالظّاهر أنه لم يقف على كلام الأئمة فيه. وفات الهيثميّ يزيد الرقاشيّ وهو ابن يزيد بن أبان فلم يضعفه وهو ممن ضُعِّف.
وأمّا ما رُوي "أفضلُ الأيام يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجّة في غير يوم الجمعة" فهو لا أصل له، أورده ابن الأثير في "جامع الأصول" (6867) -تحقيق: أيمن صالح- وعزاه إلى رزين.
ورَزين هو ابن معاوية بن عمار الأندلسيّ السرقسطيّ المتوفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بمكة، وصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(20/ 204) بأنه الإمام المحدّث الشهير صاحب كتاب "تجريد الصحاح"، وكان إمام المالكيين بالحرم.
وقال ابن الأثير في مقدمة "جامع الأصول"(1/ 48 - 50): "جمع بين كتب البخاريّ،