الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُه: "مِثْلَ المُنْفَرِدِ إذا شَكَّ في صَلَاتِهِ، فلم يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَبَنَى عَلَى اليَقِينِ". قد ذكرْنا أنَّ ظَاهِرَ المَذْهَبِ، أنَّ المُنْفَرِدَ يَبْنِى على اليَقِينِ. ومَعْنَاه أنَّه يَنْظُرُ ما تَيَقَّنَ أنَّه صَلَّاهُ من الرَّكَعَاتِ، فيُتِمُّ عليه، ويُلْغِى ما شَكَّ فيه. كما قال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، في حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ:"إذا شَكَّ أَحَدُكُمْ في الثِّنْتَيْنِ والواحِدَةِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وإذا شَكَّ في الثِّنْتَيْنِ والثَّلَاثِ، فَلْيَجْعَلْهُما ثِنتَيْنِ، وإذا شَكَّ في الثَّلَاثِ والأَرْبَعِ فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، ثم لْيُتِمَّ ما بَقِىَ من صَلَاتِه، حَتَّى يَكُونَ الوَهْمُ في الزِّيَادَةِ، ثم يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وهو جَالِسٌ قبل أنْ يُسَلِّمَ". رَوَاهُ ابنُ مَاجَه (14) هكذا. وسَوَاءٌ غَلَبَ على ظَنِّهِ خِلَافُ ذلك أمْ لم يَغْلِبْ على ظَنِّه، إلَّا أنَّ يكونَ هذا الوَهْمُ مِثْلَ الوَسْوَاسِ، فقد قال ابنُ أبِى مُوسَى: إذا كَثُرَ السَّهْوُ حتى يَصِيرَ مثلَ الوَسْوَاسِ، لَهَا عنه. وذكرْنا أنَّ في المُنْفَرِدِ رِوَايةً أُخْرَى، أنَّه يَبْنِى على ما يَغْلِبُ على ظَنِّهِ. والصَّحِيحُ في المَذْهَبِ ما ذَكَرَ الخِرَقِيُّ رحمه الله. والحُكْمُ في الإِمامِ إذا بَنَى على اليَقِينِ، أنَّه يَسْجُدُ قبلَ السَّلامِ كالمُنْفَرِدِ. وإذا تَحَرَّى المُنْفَرِدُ على الرِّوَايَةِ الأُخْرَى، سجدَ بعدَ السَّلامِ.
فصل:
قَوْلُه: "أو قَامَ في مَوْضِعِ جُلُوسٍ، أو جَلَسَ في مَوْضِعِ قِيَامٍ". أكثرُ أهلِ العِلْمِ يَرَوْنَ أنَّ هذا يُسْجَدُ له. ومِمَّنْ قال ذلك ابنُ مسعودٍ، وقَتَادَةُ، والثَّوْرِيُّ، والشَّافِعِيُّ، وإسحاقُ، وأصْحَابُ الرَّأْىِ. وكان عَلْقَمَةُ والأسْوَدُ يَقْعُدَانِ في الشَّىءِ يُقَامُ فيه، ويَقُومَانِ في الشَّىءِ يُقْعَدُ فيه، فلا يَسْجُدَانِ. ولَنا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إذا نَسِىَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ" وقال: "إذا زَادَ الرَّجُلُ أو نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ"، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ (15) عن ابْنِ مَسْعُودٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(14) تقدم في صفحة 408.
(15)
في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 402. والأول أخرجه أيضًا ابن ماجه، في: باب السهو في الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 380.
وقَوْلُه صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بعد السَّلَامِ". رَوَاهُ أبو دَاوُدَ (16). ولأنَّه سَهْوٌ فيسجُدُ (17) له كغيرِه، مع ما نَذْكُرُه في تَفْصِيلِ المسائِلِ.
فأمَّا القِيَامُ في مَوْضِعِ الجُلُوسِ، ففى ثلاثِ صُوَرٍ: إحْدَاها، أنَّ يَتْرُكَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ ويقُومَ، وفيه ثلاثُ مَسَائِل؛ الأُولَى، ذِكْرُه قبلَ اعْتِدَالِهِ قائِمًا، فَيَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلى التَّشَهُّدِ. ومِمَّنْ قال يَجلِسُ عَلْقَمَةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، والأوْزَاعِيُّ، والشَّافِعِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ. وقال مالِكٌ: إن فارَقَتْ ألْيَتَاهُ الأرْضَ مَضَى. وقال حَسَّانُ بن عَطِيَّة (18): إذا تَجَافَتْ رُكْبَتَاهُ عن الأَرْضِ مَضَى. ولَنا، ما رَوَى المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذَا قَامَ أحَدُكُمْ في الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَتِمّ قائِمًا، فَلْيَجْلِس، فَإذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا، فَلَا يَجْلِسْ، ويَسْجُدُ سَجْدَتَىِ السَّهْوِ". رواه أبو داوُد، وابنُ مَاجَه (19). ولأنَّه أَخَلَّ بِوَاجِبٍ ذَكَرَه قبلَ الشُّرُوعِ في رُكْنٍ مَقْصُودٍ. فَلَزِمَه الإِتْيَانُ به، كما لو لم تُفَارِقْ ألْيَتَاهُ الأرضَ. المسألة الثانية: ذِكْرُه بعدَ اعْتِدَالِه قَائِمًا، وقبل شُرُوعِهِ في القِرَاءَةِ، فالأوْلَى له أنْ لا يَجْلِسَ، وإن جَلَسَ جَازَ. نَصَّ عليه (20). قال النَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ ما لم يَسْتَفْتِحِ القِرَاءَةَ. وقال حَمَّادُ بنُ أبي سليمانَ: إن ذَكَرَ ساعَةَ يَقُومُ جَلَسَ. ولَنا، حَديثُ المُغِيرَة، وما نَذْكُرُه فيما بعدُ؛ ولأنَّه ذَكَرَهُ بعد الشُّرُوعِ في رُكْنٍ، فلم يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ، كما لو ذَكَرَه بعدَ الشُّرُوعِ في القِرَاءَةِ. ويَحْتَمِلُ [أنْ لا يجوزَ](21)
(16) تقدم في صفحة 388.
(17)
في م: "فسجد".
(18)
أبو بكر حسان بن عطية المحاربي مولاهم الدمشقى، كان ثقة، متعبدا، ذكره البخاري في من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 1/ 251.
(19)
أخرجه أبو داود، في: باب من نسى أن يتشهد وهو جالس، من كتاب الصلاة. سنن أبي داود 1/ 238. وابن ماجه، في: باب ما جاء في من قام من اثنتين ساهيا، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 1/ 281. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 4/ 253، 254.
(20)
أي: أحمد.
(21)
في م: "أنه لا يجوز له".
الرُّجُوعُ؛ لِحديثِ المُغِيرَةِ، ولأنَّه شَرَعَ في رُكْنٍ، فلم يَجُزْ له الرُّجُوعُ، كما لو شَرَعَ في القِرَاءةِ. المسألة الثالثة، ذِكْرُه بعد الشُّرُوعِ في القِرَاءَةِ، فلا يجوزُ له الرُّجُوعُ، ويَمْضِى في صلاتِه، في قَوْلِ أكثرِ أهل العِلْمِ. ومِمَّنْ رُوى عنه أنَّه لا (22) يَرْجِعُ عمرُ، وسعدُ بنُ أبي وَقَّاص، وابنُ مسعودٍ، والمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ، والنُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ، والضَّحَّاكُ بنُ قَيْسٍ، وعُقْبَةُ بن عَامِرٍ. وهو قولُ أكْثَر الفُقَهَاءِ. وقال الحسنُ. يَرْجِعُ ما لم يَرْكَعْ. وليس بِصَحِيحٍ؛ لِحَدِيثِ المُغِيرَة. ورَوَى أبو بكرٍ الآجُرِّىُّ (23)، بإسْنَادِهِ عن مُعَاوِيةَ: أنَّه صَلَّى بهم فقامَ في الرَّكْعَتَيْنِ، وعليه الجُلُوسُ، فَسُبِّحَ به، فأبَى أنْ يَجْلِسَ، حتى إذا جَلَسَ يُسَلِّمُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وهو جَالِسٌ، ثم قال: رَأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ هذا. ولأنَّه شَرَعَ في رُكْنٍ مَقْصُودٍ، فلم يَجُزْ له الرُّجُوعُ، كما لو شَرَعَ في الرُّكُوعِ. إذا ثَبَتَ هذا فإنَّه يَسْجُدُ قبل السَّلامِ في جميعِ هذه المسائِلِ؛ لحديثِ مُعَاوِيَةَ، ولما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ مالِكِ بن بُحَيْنَةَ، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم الظُّهْرَ، فقَامَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُوَلَيَيْنِ، ولم يَجْلِسْ، فقَامَ النَّاسُ معه، فلمّا قَضَى الصَّلَاةَ وانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهو جَالِسٌ، فسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قبلَ أن يُسلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ (24). مُتَّفَقٌ عليه (25).
(22) في الأصل: "لم".
(23)
أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد اللَّه الآجرى، محدث، فقيه، بغدادى، سكن مكة، وتوفى بها سنة ستين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 2/ 243. طبقات الشافعية الكبرى 3/ 149.
(24)
سقط من: م.
(25)
أخرجه البخاري، في: باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ولم يرجع، من كتاب الأذان، وفى: باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، وباب من يكبر في سجدتي السهو، من كتاب السهو، وفى: باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، من كتاب الأيمان. صحيح البخاري 1/ 210، 211، 2/ 85، 86، 8/ 170. ومسلم، في: باب السهو في الصلاة والسجود له، من كتاب المساجد 1/ 399. كما أخرجه أبو داود، في: باب من قام ثنتين ولم يتشهد، من كتاب الصلاة 1/ 237. والترمذي، في: باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيا، وباب ما جاء في سجدتي السهو قبل التسليم، من أبواب الصلاة. عارضة الأحوذي 2/ 160، 183. والنسائي، في: باب ترك التشهد الأول، من كتاب التطبيق، وفى: باب ما يفعل من قام من اثنتين ناسيا ولم يتشهد، وباب التكبير في سجدتي السهو، من كتاب السهو. =