الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الصَّلاةِ
كِتَابُ الصَّلاةِ
قال النووي رحمه الله في «شرح المهذب» (3/ 2): الصلاة في اللغة الدعاء، وسميت الصلاة الشرعية صلاةً؛ لاشتمالها عليه، هذا هو الصحيح، وبه قال الجمهور من أهل اللغة، وغيرهم من أهل التحقيق. اهـ
ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«إذا دُعِي أحدكم فليجب؛ فإن كان مفطرًا، فليطعم، وإن كان صائمًا، فليصل» .
(1)
والصلاة في الشرع هي: أقوال، وأفعال مخصوصة، مُفْتَتَحَةٌ بالتكبير، مختتمة بالتسليم، تعبدًا لله تعالى.
(2)
مسألة [1]: حكم تارك الصلاة
.
أما إنْ تركها جُحودًا؛ فقد أجمع العلماء على أنه كافرٌ، وخارجٌ من الملة.
• واختلف أهل العلم فيما إذا تركها تكاسلًا، وتهاونًا على قولين، وهي من أعظم المسائل التي اختلف فيها السلف وينبني على الخلاف مسائل كثيرة معروفة عند أهل العلم.
وأنا ذاكرٌ إن شاء الله القولين مع الأدلة الصحيحة القوية من الجانبين، ثم
(1)
أخرجه مسلم برقم (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
وانظر: «المغني» (2/ 5)، «توضيح الأحكام» (1/ 469)، «الشرح الممتع» (2/ 5).
نُرجِّح بينهما، والله المستعان.
القول الأول: أنَّ تركَ الصلاة تكاسلًا كفرٌ أكبر مخرجٌ من الملة.
وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم، وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث.
واستدل هؤلاء بما يلي:
1) قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
2) قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
3) قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
4) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «بين الرجل وبين الكفر: ترك الصلاة» ، أخرجه مسلم (82) عن جابر رضي الله عنه.
5) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر» ، رواه الترمذي (2621) عن بريدة رضي الله عنه، وإسناده صحيح، وهو في «الصحيح المسند» (171).
6) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من ترك صلاة العصر؛ فقد حبط عمله» ، رواه البخاري (553)
عن بريدة رضي الله عنه.
7) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ولا تنازعوا الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان» ، متفق عليه
(1)
من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وفي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، في «صحيح مسلم» (1855): قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال:«لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» .
فهذا يدل على أن ترك الصلاة كفرٌ بواحٌ.
8) قول عبد الله بن شقيق: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئًا تركه كفر غير الصلاة.
9) قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
10) وقول ابن مسعود رضي الله عنه: من لم يُصَلِّ؛ فلا دين له. وقول علي رضي الله عنه: من تركها؛ فهو كافر.
القول الثاني: أنَّ ترك الصلاة تكاسلًا كفرٌ أصغر ليس مُخرجًا من الملة، بل يكون فاسقًا، مرتكبًا لكبيرة من كبائر الذنوب.
وهو قول المالكية، والشافعية، والحنفية، وأحمد في رواية اختارها بعض أصحابه كابن بطة، وابن قدامة، وهو قول الثوري، والمزني، وعزاه بعضهم إلى الأكثرين، كالنووي، والحافظ ابن حجر، والشوكاني.
(1)
أخرجه البخاري برقم (7200)، ومسلم برقم (1709).
واستدل هؤلاء بما يلي:
1) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48/ 116].
2) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من مات لا يشرك بالله شيئًا؛ دخل الجنة» ، أخرجه مسلم (93) عن جابر رضي الله عنه.
3) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله؛ دخل الجنة» ، رواه مسلم (26) عن عثمان رضي الله عنه.
4) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنَّ الجنة حقٌّ، والنار حقٌّ؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء» ، متفق عليه
(1)
عن عبادة رضي الله عنه.
5) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ما من عبد يشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه؛ إلا حرمه الله على النار» ، متفق عليه
(2)
عن أنس رضي الله عنه.
6) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأبي هريرة رضي الله عنه: «من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه؛ فبشره بالجنة» ، رواه مسلم (31)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1)
أخرجه البخاري برقم (3435)، ومسلم برقم (28).
(2)
أخرجه البخاري برقم (128)، ومسلم برقم (32)، وليس عند مسلم قوله:«صدقًا» .
7) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه» ، رواه البخاري (99)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
8) حديث البطاقة، وفيه: أنَّ رجلًا دخل الجنة وليس معه إلا بطاقة لا إله إلا الله. رواه الترمذي (2639)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
9) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة، وهو في «الصحيحين»
(1)
، وفيه: «حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لله فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لله يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ؛ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا؛ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا؛ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
(1)
أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183).
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ
…
، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجنَّةِ، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الله الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللهُ الْجنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ
…
» الحديث.
10) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَاّهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى الله عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الله عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» أخرجه أبو داود (425) بإسناد صحيح.
11) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إنَّ للإسلام صوى، ومنارًا كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم؛ فإن رَدُّوا عليك رَدَّتْ عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك؛ ردت عليك الملائكة، ولعنتهم، أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا؛ فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن؛ فقد نبذ الإسلام وراء ظهره» ، أخرجه ابن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (1/ 411)، ورجاله رجال الشيخين، لكن خالد بن معدان رواه عن أبي
هريرة رضي الله عنه، وقد قال أبو حاتم: أدرك أبا هريرة، ولم يذكر له سماع منه.
قلتُ: فهو على شرط مسلم، وقد أخرج أبو يعلى (4567) بعض معناه بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام ثلاثة: الصوم، والصلاة، والصدقة
…
» الحديث.
12) ما رواه نصر بن عاصم الليثي عن رجل من قومه أنه أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فأسلم على أنْ لا يُصلي إلا صلاتين، فقبل منه. أخرجه أحمد (5/ 363) عن وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم به، ولو كان ترك الصلاة كفرًا مخرجًا؛ ما نفعه إسلامه مع تركه الصلاة، والله أعلم.
قال أبو عبد الله غفر الله له: الأدلة قوية من الجانبين، ولكن بالنظر فيها نلاحظ أنَّ أدلة القول الثاني أقوى، وتأويلها أعسر؛ فالراجح هو القول الثاني.
وأما أدلة أصحاب القول الأول؛ فالجواب عنها كما يلي:
1) قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] أي: إنَّ الأُخُوَّة في الدين تحصل بالإيمان كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، والإيمان يحصل بالشهادتين؛ لحديث معاذ بن جبل عند أن بعثه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى اليمن، فيكون ذكر الصلاة، والزكاة من كمال الأُخُوَّة، ويدل على ذلك أنَّ الزكاة مذكورة مع الصلاة في نفس الآية، وهم لا يقولون: إذا لم يُزَكِ
ليس بأخ لنا في الدين، بل يقولون: أُخُوَّتُه ناقصة؛ لوجود الدليل على أنَّ تارك الزكاة لا يكفر، وكذلك يقال لهم: ومن ترك الصلاة تكاسلًا؛ فأُخُوَّتُه ناقصة؛ لوجود الأدلة على أنَّ تاركها تكاسلًا ليس بكافر، والله أعلم.
2) قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم:59 - 60]، هذا وعيد لهم بالنار، ولا يلزم وقوعه، بل هم تحت المشيئة كما دلَّ على ذلك حديث عبادة، وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ:{وَآمَنَ} لا يدل على أنهم كفار، بل يحتمل أنه أراد كمال الإيمان، أو تاب مع بقاء الإيمان، وَحَمَلَنَا على هذا التأويل الجمع بين الأدلة، والله أعلم.
3) قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] هذه الآيات في سياق الكافرين؛ لقوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46]، وقد ذكروا من أعمالهم: ترك إطعام المساكين، ولا يدل على أنَّ ترك الإطعام هو الذي جعلهم من الكفار، والله أعلم.
4) حديث جابر رضي الله عنه: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» المقصود به كفر أصغر، كما قيل ذلك في قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«وقتاله كفر» ، وقوله:«لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، ومن قال بأن الكفر إذا عُرِّفَ أُرِيدَ به الكفر الأكبر؛ فقوله ليس بصحيح، فقد وجد التعريف والمراد به الكفر الأصغر، كما جاء في حديث امرأة ثابت بن قيس عند أن قالت للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«أكره الكفر في الإسلام» أخرجه البخاري برقم (5273).
5) حديث بريدة رضي الله عنه: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر» ، المراد به أيضًا كفر دون كفر، أي: الكفر الأصغر، جمعًا بين الأدلة، وأما قوله:«العهد الذي بيننا وبينهم» ؛ فالمراد به المنافقون، كما قال ذلك الطِّيبي، والمناوي، والمباركفوري، والمعنى: أنَّ العهد الذي بيننا وبين المنافقين هي الصلاة، بمعنى أنها الموجبة لحقن دمائهم كالعهد في حق المعاهدين، فكما أنَّ أهل الذمة تُحقَنُ دماؤهم بالعهد، فكذلك المنافقون تُحقن دماؤهم بالصلاة.
(1)
6) حديث بريدة رضي الله عنه: «من ترك صلاة العصر؛ فقد حبط عمله» ، لم يأخذ بظاهره المكَفِّرُون تاركَ الصلاة أيضًا؛ فإنَّ عندهم من ترك فرضًا واحدًا، أو فرضين لا يكفر، هكذا قال كثير منهم، وَأَوَّلُوا الحديث على أنَّ المقصود بـ:«حبط عمله» ، أي: حبط عمل يومه، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال، وكأنَّ المراد بالعمل الصلاة خاصَّة، أي: لا يحصل على أجر من صلَّى العصر، وهناك أقوال أخرى ذكرها الحافظ في شرح الحديث (553)، ثم قال: وأقرب هذه التأويلات قول من قال: إنَّ ذلك خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مرادٍ، والله أعلم.
قلتُ: وتقييده بالعصر يدل على ذلك، والله أعلم.
7) قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» ، قال الطِّيبي في «شرح المشكاة» (8/ 2562): قوله: «ما أقاموا فيكم الصلاة» فيه إشعارٌ بتعظيم أمر الصلاة، وأنَّ
(1)
انظر: «تحفة الأحوذي» (7/ 369)، «فيض القدير» (4/ 395)، «شرح المشكاة» (3/ 871).
تركها موجبٌ لنزع اليد من الطاعة، كالكفر على ما سبق في حديث عبادة بن الصامت في قوله:«إلا أن تروا كفرًا بواحًا» .اهـ
ومعنى كلام الطِّيبي رحمه الله: أنَّ ترك الصلاة يُسَوِّغ الخروج على الإمام كما يسوغه الكفر، ويكون حديث عبادة رضي الله عنه مفهومه: أنَّ كل ما سوى الكفر لا يسوغ الخروج على الإمام، وهذا العموم المفهوم من حديث عبادة مقيد بمنطوق حديث عوف بن مالك، فيكون المسوغ للخروج هو الكفر البواح، وكذلك ترك الصلاة، والله أعلم.
8) قول عبد الله بن شقيق أخرجه الترمذي (2622)، وابن أبي شيبة (11/ 49)، وغيرهما، واللفظ للترمذي، وهو صحيح، ولكن معناه: لا يرون شيئًا تركه كفر؛ فيحتمل على أنَّ المراد كفر أصغر، وتنصيصه على الصلاة يدل على عظمها، وعلى أنَّ تركها أعظم من ترك غيرها، والله أعلم.
وعلى التسليم بأنه أراد الكفر الأكبر؛ فلا يكون قول جميع الصحابة، بل قول بعضهم، فعبد الله بن شقيق لم يُدرك جميع الصحابة.
9) أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثابتٌ عنه، أخرجه مالك (1/ 39 - 40)، وابن أبي شيبة (11/ 25) بإسناد صحيح، وكذلك أثر ابن مسعود أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (936)(937) بإسناد حسن، وأما أثر علي فأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 47)، وفي إسناده: معقل الخثعمي، وهو مجهول، ومن صحَّ عنه يحتمل أنه أراد نفي كمال الإسلام، والإيمان، ولو سُلِّمَ أنه أراد نفي الإسلام