الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في ذكر رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أرض العنوة
روى أبو عبيد القاسم بن سلام (72) عن إبراهيم التيمي قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا فإنا فتحناه عنوة، فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه. قال:
فأقرّ أهل السواد في أرضهم، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أرضهم الطسق- قال أبو عبيد: يعني الخراج- ولم يقسمه بينهم.
وعن الماجشون قال (73) قال بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحوها يعني بالشام عنوة: اقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر: لا، هذا عين المال، ولكني أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه؛ قال: فما حال الحول ومنهم عين تطرف.
وعن سفيان بن وهب الخولاني يقول (74) : لما افتتحت مصر بغير عهد قام الزبير فقال: يا عمرو بن العاص اقسمها، فقال عمرو: لا أقسمها، فقال الزبير:
لتقسمنّها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنهم، فكتب إليه عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة، يعني ولد الولد. قال أبو عبيد: أراه أراد أن يكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا، ليرثه قرن عن قرن ويكون قوة لهم على عدوهم.
وعن يزيد بن أبي حبيب (74) أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص يوم افتتح العراق: أما بعد، فقد بلغني كتابك، أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها
ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء.
(74)
وعن جارية بن مضرّب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين فأمر أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما: دعهم يكونوا مادة للمسلمين فتركهم.
(75)
وعن عبد الله بن أبي قيس أو عبد الله بن قيس قال: قدم عمر الجابية، فأراد أن يقسم الأرض بين المسلمين، فقال معاذ: والله إذا ليكوننّ ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في يدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم يسدّون من الإسلام مسدّا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ رضي الله تعالى عنهما.
قال أبو عبيد: فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين:
أما الأول منهما: فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر: وذلك أنه جعلها غنيمة فخمسها وقسمها وبهذا الرأي أشار بلال على عمر في بلاد الشام، وأشار به الزبير بن العوام على عمرو بن العاص في أرض مصر، وبهذا كان يأخذ مالك بن أنس.
وأما الحكم الآخر: فحكم عمر رضي الله تعالى عنه في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه ولم يقسمه، وهو الرأي الذي أشار به علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، وبهذا كان يأخذ سفيان وهو معروف من قوله.
قال أبو عبيد (76) وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم برادّ لفعل عمر، ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من كتاب الله فعمل بها، واتبع عمر آية فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمين من أموال المشركين فيصير غنيمة،
أو فيئا. قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال: 41) فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى إلى قوله: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ (الحشر: 7- 9) فهذه آية الفيء، وبها عمل عمر، وإياها تأوّل حين ذكر الأموال وأصنافها، قال: فاستوعبت هذه الآية الناس، وإلى هذه الآية ذهب علي ومعاذ حين أشارا عليه بما أشارا فيما نرى، والله تعالى أعلم.
فوائد لغوية في ست مسائل:
الأولى: ابن طريف: ضرب عليك الشيء: ألزمكه، ومنه الضريبة من المغرم.
الثانية: تقدم قول أبي عبيد في الطسق: أنّه الخراج، وفي «المحكم» (6: 138) الطسق: ما يوضع على الجربان من الخراج، وقال الجوهري (4: 1517) فارسي معرب.
الثالثة: في «الصحاح» (4: 1665) حبل الحبلة: نتاج النتاج، وولد الجنين.
وفي «المشارق» (1: 175) بفتح الحاء والباء فيهما. ويروى في الأول بسكون الباء أيضا، والفتح أبين وأوضح.
الرابعة: في «جامع الاشتقاق» المضرب يكون من الضّرب على التكثير، ويكون من قولهم: أرض مضروبة من الضريب وهو الجليد الذي يسقط من السماء.
الخامسة: في «المحكم» سواد كل كورة ما حول القرى والرّساتيق، والسواد جماعة النخل والشجر لخضرته واسوداده، وقيل إنما ذلك لأن الخضرة تقارب السواد، والنسب إليهما سوادى بضم السين نادر، عن ابن الأعرابي.