الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهنا يشير إلى اضطرار الشاعر الى تحريك الساكن في المفردة أحيانًا، وهذا لا يكون في النثر، ولا تَجدُ عليه شاهدًا من غير الشعر، لعدم وجود الضرورة إلا فيه.
ومن الأمثلة كذلك ما ذكره الطبري عند تفسيره قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60](1) حيث نقل كلام الفراء في أوجه قراءة (عَبَدَ) وتوجيهه لقراءة من قرأ: {وعَبُدَ الطَّاغوتِ} (2) فقال: «وكان الفراءُ يقولُ (3): إن تكنْ فيهِ لغةٌ مثل «حَذِرٍ» و «حَذُرٍ» ، و «عَجِلٍ» و «عَجُلٍ» فهو وجه والله أعلم، وإلا فإن أراد قول الشاعر (4):
أَبَنِي لُبَيْنَى إِنَّ أُمَّكَمُ أَمَةٌ وإِنَّ أَبَاكُمُ عَبُدُ (5)
فإِنَّ هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأَمَّا في القراءة فلا» (6).
فيكون الشاهد الشعري هو الدليل الوحيد في مثل هذه المسائل في كتب التفسير، لاختصاص مثل ذلك بالشعر دون النثر (7).
صور الاكتفاء بالشاهد الشعري:
للمفسرين في حال اكتفائهم بالشاهد الشعري، واقتصارهم عليه في الاستشهاد ثلاث صور:
الأولى: ما ورد له شاهد واحد:
ومن أمثلة الاكتفاء بشاهدٍ واحدٍ من الشعر عند المفسرين قول الطبري: «{فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44](8) يقول: فَلأنفسهم يَستعدونَ
(1) المائدة 60.
(2)
هذه القراءة قراءة حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب والمطوعي ويحيى بن يعمر والجحدري. انظر: النشر 2/ 25، حجة القراءات 231، السبعة 246.
(3)
انظر كلام الفراء في معاني القرآن 1/ 314 - 315 وقد نقله الطبري بنصه إلى آخره.
(4)
هو أوس بن حجر.
(5)
انظر: ديوانه 98.
(6)
تفسير الطبري (شاكر) 10/ 440.
(7)
انظر: المحرر الوجيز 4/ 105، الجامع لأحكام القرآن 5/ 3، الدر المصون 3/ 671.
(8)
الروم 44.
ويُسوونَ المضجعَ ليسلموا من عقابِ رَبِّهِم، وينجو من عذابه، كما قال الشاعر (1):
امْهَدْ لِنَفْسكَ حَانَ السُّقمُ والتَّلَفُ
…
ولا تُضِيعنَّ نَفسًا مَا لَهَا خَلَفُ (2)» (3).
فالطبري قد اكتفى بالشاهد الشعري للاستدلال على المعنى اللغوي للفظة «يَمْهَدُونَ» في الآية القرآنية، بعد أن فَسَّر معناها بكلام من عنده (4).
وقال ابن عطية مكتفيًا بشاهد من الشعر للاستشهاد على أن لفظ «القوم» يأتي ويراد به الرجال خاصة دون النساء: «والقوم في كلامٍ الرجالُ خاصةً، ومنه قول زهير:
وَلا أَدْرِي وسَوفَ إِخَالُ أَدْرِي
…
أَقَومٌ آَلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ (5)» (6).
وقال ابن عطية أيضًا: «واختلف المتأولون في قوله: {وَانْظُرْنَا} [النساء: 46](7)، فقال مُجَاهدُ وعكرمةُ وغَيرُهُما: معناه: انتظرنا، بِمَعنى: أفهمنا وتَمهَّل علينا؛ حتى نفهم عنك ونَعِيَ قولَك، وهذا كما قال الحطيئة:
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إِيناءَ صَادرةٍ
…
لِلخِمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحِي وتَنْسَاسِي (8)
وقالت فرقة: انظر معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاءُ اهْتِبَالٍ وتَحَفٍّ، ومنه قول ابنِ الرُّقَيَّاتِ:
(1) هو سليمان بن يزيد العدوي كما في مجاز القرآن 2/ 124.
(2)
انظر: مجاز القرآن 2/ 124.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 18/ 516.
(4)
انظر أيضًا: تفسير الطبري (شاكر) 13/ 288، 293، 301، 366.
(5)
ديوانه 170.
(6)
المحرر الوجيز 7/ 149.
(7)
النساء 46.
(8)
رواية الديوان:
وقدْ نَظَرْتُكُمُ إِعْشَاءَ صَادِرَةٍ
…
لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وتَنْسَاسِي
أعشاءَ: جمع عَشاء، صادرةٍ للخِمْسِ: أي صدرت، وكان ظمؤها خمسًا فهي تُعشَّى عَشاء طويلًا، والحوز هو السوق قليلًا قليلًا، والتَّنْسَاسُ: تَفْعَالٌ مِن النَّسِّ وهو السَّوْقُ
…
انظر: شرح ديوانه لابن السكيت 46 - 47.
ظَاهراتُ الجَمَالِ والحُسْنِ يَنْظُرْنَ
…
كَمَا تنظرُ الأَرَاكَ الظباءُ (1)» (2).
فهو قد أورد وجهين، لكل وجه شاهد واحد من الشعر مكتفيًا بالشاهد الواحد، ومقتصرًا عليه في الاستشهاد والاستدلال على المعنى اللغوي.
- الاستشهاد للمشترك اللفظي:
ورُبَّمَا جاءت اللفظةُ مشتركةً من قبيل «المشترك اللفظي» ، وهو اللفظ يدل على أكثر من معنى، فيفسرها المفسرُ، ويكتفي في الدلالة على كلِّ معنىً من المعاني بشاهدٍ من الشعر. ومثال ذلك قول القرطبي وهو يفسر معنى الريب في قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2](3): «وفي الرَّيْبِ ثلاثةُ مَعَانٍ: أحدها: الشَّكُّ، قال عبد الله بنُ الزِّبَعْرَى:
ليسَ في الحقِّ يا أُمَيمةُ رَيْبُ
…
إِنَّمَا الرَّيبُ ما يقولُ الجَهُولُ (4)
وثانيها: التُّهَمَة، قال جَميل (5):
بُثَينةُ قالتْ: يا جَميلُ أَرَبْتَنِي
…
فقلتُ: كِلانَا يَا بُثَيْنَ مُرِيبُ (6)
وثالثها: الحاجة، قال (7):
قَضِينَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
…
وخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَمْنَا السيوفَا (8)» (9).
فقد استشهد القرطبي لكل معنى من معاني الريب بشاهد من الشعر المحتج به، واقتصر في الاستشهاد على الشعر دون غيره من الشواهد. والأمثلة على اكتفاء المفسرين بالشاهد الشعري الواحد كثيرة، مما يدل
(1) انظر: ديوانه 33.
(2)
المحرر الوجيز 4/ 140.
(3)
البقرة 2.
(4)
ليس في شعره الذي جَمعه يحيى الجبوري. .
(5)
هو جَميلُ بن مَعْمَرٍ العُذريُّ.
(6)
انظر: ديوانه 87، سمط اللآلي 2/ 719.
(7)
هو كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه.
(8)
انظر: ديوانه 66.
(9)
الجامع لأحكام القرآن 1/ 159.