الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعرف قائلوها، وكثير من الشواهد النحوية التي لم يعرف قائلوها في كتب التفسير من الأبيات التي ذكرها سيبويه في كتابه، أو ذكرها الفراء في معانيه، وتلقَّاها العلماءُ بالقبولِ من عهدِ سيبويهِ حتى اليوم، ولم يطعنوا في الكتاب بسببها. وأَمَّا الشواهد اللغويَّةُ فهي مِمَّا رواه أبو عُبيدةَ أو الكسائيُّ أو الأصمعيُّ من الرواة الثقات الذين رويت عنهم أشعار العرب.
ومن أمثلة هذه الشواهد التي رواها الثقات في كتب التفسير مع الاختلاف في القائل، قول الشاعر:
وَلستَ لإِنسيِّ ولكنْ لَمَلأَكٍ تَنَزَّلُ من جَوِّ السماءِ تَصُوبُ (1)
فقد استشهد به الطبريُّ، والزمخشريُّ، وابنُ عطية، والقرطبيُّ (2) اعتمادًا على رواية الثقات له كسيبويه (3)، وأبي عبيدة (4)، وابن السكيت. (5) وأمثلة الشواهد المجهولة القائل في كتب التفسير كثيرة كما سيتضح في هذا المبحث، غير أن رواية الثقات لها جعلت المفسرين وغيرهم يعتمدون عليها، ويستشهدون بها.
4 - ألا يَحتملَ الشاهدُ التأويلَ:
وذلك بأن تكون دلالته على المراد صريحة، ولا يمكن تأويله بوجه
(1) نسبه ابنُ بري لرجلٍ من عبد القيس، أو لأبي وجزة، أو لعلقمة بن عبدة كما في اللسان (صوب) 7/ 433.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 333، الكشاف 3/ 30، المحرر الوجيز 1/ 101، 116، الجامع لأحكام القرآن 9/ 183.
(3)
أنشده دون عزو في الكتاب 4/ 38.
(4)
نسبه أبو عبيدة لرجل جاهلي من بني عبدالقيس يمدح بعض الملوك، ولعل هذا هو الأرجح لأن أبا عبيدة أنشد قبله بيتين لعلقمة بن عبدة على وزن هذا البيت وقافيته فهو يعرف بيت علقمة وهذا ليس له وربما وقع الوهم في النسبة عند ابن بري من هذا التقارب بين البيتين. انظر: مجاز القرآن 1/ 33.
(5)
انظر: إصلاح المنطق 82، الاشتقاق 26.
يبعده عن الاستشهاد في المسألة التي أورد شاهدًا لها، وقد رد المفسرون شواهد متعددة، ووصفوها بأنها ليست حجة على المراد؛ لإمكان تأويلها تأويلًا يسقط الاحتجاج بها على هذا الوجه أو ذاك. ومن أكثر المفسرين الذين ردوا الشواهد بهذه الحجة ابن عطية في تفسيره.
ومن أمثلة ذلك قول ابن عطية وهو يشرح معاني الدين في اللغة: «ومن أنحاء اللفظة الدين: الداء، عن اللحياني، وأنشد:
ما دِينُ قلبكَ مِن سَلمى وقَدْ دِينا (1)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني». (2)
ومن الأمثلة قوله أيضًا عند تفسير معنى الإثم في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33](3): «والإثم أيضًا لفظٌ عامٌ لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور. وقال بعضُ الناسِ: هي الخَمْرُ، واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى طارَ عقلي (4)
قال القاضي أبو مُحمدٍ رحمه الله: وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن هذه السورة - أي الأعراف - مكية، ولم تُعْنَ الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أُحُدٍ؛ لأن جماعةً من الصحابة اصطحبوها يوم أُحُدٍ وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم. وأيضًا فبيت الشعر يقالُ: إِنَّهُ مصنوعٌ
(1) لم أعثر عليه.
(2)
المحرر الوجيز 1/ 74 - 75.
(3)
الأعراف 33.
(4)
صدر بيت مجهول، وعجزه:«كذاك الإثمُ تذهبُ بالعقولِ» .
وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 161، ولسان العرب 1/ 75، نهاية الأرب للنويري 4/ 113.
مُختَلَقٌ، وإن صحَّ فهو على حذفِ مُضافٍ». (1)
فابن عطية يرد هذا الشاهد، ويرى مع التسليم بصحته أنه ينبغي تأويله على وجه آخر غير الوجه الذي استُشهِدَ به عليه.
ومن الأمثلة أيضًا قول ابن عطية وهو يستدل على أَنَّ الوصفَ بـ «أُخرَى» يُقالُ في المرة الثالثةِ أيضًا، وليس في الثانية فحسب، ثم أورد شاهدًا لا يدل على قوله هذا، فبحث له عن تخريج بقوله: «وأَمَّا قولُ الشاعر (2):
جَعَلَتْ لَهُ عُودَينِ مِنْ
…
نَشَمٍ وآخرَ مِنْ ثُمامَه (3)
فيُحتملُ أن يُريدَ به ثانيًا وثالثًا، فلا حُجةَ فيه». (4)
فقد رده ابن عطية أيضًا لاحتمال دلالته على غير المعنى المستشهد عليه به، وهناك أمثلة أخرى على مثل هذا عند ابن عطية. (5)
ومن الأمثلة أيضًا قول ابن عطية عند تفسيره قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21](6): «وقوله: {يَرْجُونَ} قال أبو عبيدة وقومٌ: معناه يخافون (7)، والشاهد لذلك قول الهذلي (8):
إذا لَسَعَتْهُ النَّحلُ لم يَرْجُ لَسْعَها
…
وخَالفَها في بيتِ نُوبٍ عَواملِ (9)
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابهِ؛ لأَنَّ خوف لقاء الله تعالى مقترن أبدًا برجائه، فإذا نفي
(1) المحرر الوجيز (قطر) 5/ 488 - 489.
(2)
هو عبيد بن الأبرص.
(3)
رواية الديوان: «جَعَلَتْ لَها عُودَينِ» . النَّشَمِ والثُّمَام: شجر. انظر: ديوانه 126.
(4)
المحرر الوجيز 12/ 135 - 136.
(5)
انظر: المحرر الوجيز 1/ 87، 4/ 194، 6/ 78، 11/ 58.
(6)
الفرقان 21.
(7)
انظر: مجاز القرآن 1/ 275، 2/ 73، تفسير الطبري (شاكر) 15/ 26.
(8)
هو أبو ذؤيب الهذلي.
(9)
الشاهد من شواهد المفسرين المشهورة، وهو في وصفِ رجل حاذق يتدلى إلى عسلٍ محفوظٍ في مَكمنهِ في حال غيابِ النَّحلِ العاملات عنه، ولا يخشى لَسْعَ النحلِ، لنفاسةِ العسلِ، ولذتهِ. انظر: ديوان الهذليين 1/ 143.
الرجاء عن أحدٍ فإنّما أخبر عنه أنه مكذِّبٌ بالبعث لنفي الخوف والرجاء
…
وأما بيتُ الشعرِ المذكورِ فمعناهُ عندي: لم يَرْجُ دَفعَها ولا الانفكاكَ عنها، فهو لذلكَ يوطَّنُ على الصَّبْرِ، ويَجدُّ في شُغلهِ». (1)
واعتراضُ ابنِ عطية على شرح الشاهدِ قد يكون له وجهٌ، مع مخالفته لشرح الشراح، فقد شرحه أبو عبيدة كما نقل بغير ذلك، وشرحه السكري فقال:«لم يَرْجُ لسعَها: لم يَخَفْ، ولم يُبَالِها» . (2) ويقوي ما فهمه ابن عطية معنى البيت الذي بعده وهو قوله:
فَحَطَّ عليهَا والضُّلوعُ كأَنَّها
…
من الخَوفِ أَمثالُ السِّهامِ النَّوَاصلِ
ففيه دلالة إلى أنَّ الخوف قد تَملَّك هذا الرجل، وأن البيت الذي قبله ليس نفيًا للخوف، وإنما نفي للرجاء مع بقاء الخوف، وقد يكون نفي الخوف في الأول من اللسع، وإثبات الخوف في الثاني من السقوط. (3) ومعظم شراح البيت والمفسرين ذكروا أن الرجاء في البيت بِمعنى الخوف. (4) والرجاء عند هذيل فيه خوف وخشية، بخلافه عند غيرهم ففيه اطمئنان، ولذلك فسروا الآيات التي وردت في الرجاء بمعنى الخوف (5)، وبعض اللغويين يجعل هذه لغة هذيل وحدها (6)، وبعضهم يجعلها لغة تهامية، ونسبت لخزاعة وغيرها (7)، وبعضهم يذهب إلى أن الرجاء يكون بمعنى الخوف عند هذيل في حال النفي فحسب (8)، ولعل
(1) المحرر الوجيز 12/ 16، الجامع لأحكام القرآن 8/ 311.
(2)
شرح أشعار الهذليين 1/ 144، الكشاف 3/ 440 - 441.
(3)
انظر: شرح أشعار الهذليين 1/ 144.
(4)
انظر: أمالي الزجاجي 20، تهذيب إصلاح المنطق 1/ 204، المخصص 8/ 178، تحفة المودود 255.
(5)
انظر: اللغات في القرآن 44، البحر المحيط 6/ 491، 8/ 341، تفسير البيضاوي 3/ 248، الأضداد لابن السكيت 179.
(6)
انظر: الإتقان للسيوطي 1/ 134.
(7)
انظر: الأضداد لابن السكيت 81.
(8)
انظر: البحر المحيط 6/ 491.