الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو اللفظة المفردة إليه واضحةً، حتى لا يتردد في قبول التفسير من لم يقف على أن هذه الكلمة قد تستعمل عند العرب في غير المعنى المشهور الذي يعرفه غالب العرب.
وفي القرآن كلمات غريبة، يحتاج المفسر عند بيان معناها إلى الاستشهاد بشيء من كلام العرب، حتى يعلم طالب العلم أن التفسير لم يخرج عن حدود اللسان العربي، فيطمئن إلى صحة التفسير لا إلى أن القرآن عربي، فإن هذا لا يشك فيه مؤمن عرف القرآن، ومارس العلم.
وفي القرآن الكريم آيات تحتمل أوجهًا من الإعراب، ومن الواضح أن معنى الآية يختلف باختلاف وجه إعرابها، فقد يختار المفسر من الإعراب وجهًا يراه أليق بالبلاغة، أو أثبت بحكمة المعنى، ويكون هذا الوجه من الإعراب يستند إلى حكم عربي غير معهود لبعض أهل العلم، فيخشى إنكارهم لأن يكون هذا الوجه صحيحًا عربية، فيعمد إلى دفع هذا الإنكار بإقامة شاهد من لسان العرب على صحة ما ذهب إليه من الإعراب.
فالاستشهاد بالشعر على صحة تفسير لفظةٍ أو جُملةٍ من القرآن الكريم قائم على دواعٍ معقولة، وقد يصيبُ المفسر الذي يستشهد بالشعر أو يُخطيءُ، وقد يذهب في الاستشهاد مذهبًا يوافق عليه، أو يعارض فيه، غير أن هذا بابٌ آخر غير باب الجواز من عدمه.
المسائل التي يُستَشهَدُ لَها:
لغة العرب من حيث الظهور وعدمه تنقسم إلى قسمين:
الأول: الظاهر البَيّن الذي يعرفه الجميع، ولا يكاد يختلف فيه العرب. وهذا القسم هو غالب اللغة التي يتخاطب بها العرب، ونزل بها القرآن الكريم، وتحدث بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع لا حاجة إلى الاستشهاد عليه، لظهوره وعدم دخول الإشكال فيه، ويدخل في ذلك
المفردات والأساليب، فإن العلماء لم يستشهدوا على كثير من مسائل اللغة والنحو، كرفع الفاعل، ونصب المفعول ونحو ذلك، لوضوحها وظهورها، وعدم وجود الخلاف فيها بين العرب. ولذلك تجد في عباراتهم مثل قول ابن الأنباري:«فأما معنى الضجر فإنه لا يحتاج إلى شاهد لشهرته عند الناس» (1). وقوله أيضًا: «وكون «لا» بمعنى الجحد -النفي عند البصريين- لا يَحتاجُ إلى شاهد» (2).
الثاني: الغريب الذي لا يعرفه كل أحد، وإنما يختص بمعرفته أناس دون أناس، وهم العلماء الذين فُضِّلوا بِمَزيدِ معرفةٍ ودرايةٍ. وهذا النوع هو الذي يحتاج إلى الشواهد من كلام العرب لتحقيقه وتفسيره. وقد سُئِل ابن قتيبة «هل كانت العرب قبل نزول القرآن، وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تستوي في المعرفة من جهة اللغة بجميع الأسماء التي في القرآن، وما تحتها من المعاني؟ » . فأجاب رحمه الله بقوله: «والعرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب، والمتشابه، بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله جل وعز: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] (3)، ونحن نذهب إلى أن الراسخين في العلم يعلمونه على ما بَيَّنَّا، فأعلمنا الله تبارك وتعالى أن من القرآن ما لا يعلمه من العرب إلا من رسخ في العلم» (4).
ويقول رحمه الله بعد ذلك: «وكذلك هي - أي العرب - في الغريب ليس كلها تستوي في العلم به، ولا كلامها كله واضحًا عندها، بل منه المبتذل، ومنه الغريب الوحشي الذي إنما يعرفه العالم منهم، وقد يختلفون في الحروف كما نختلف، ويقول العالم في الشيء يُسألُ عنه من اللغة: لا أعرفه، ويعرفه غيره، فيُخْبِرُ بهِ» (5).
(1) الأضداد 107.
(2)
المصدر السابق 211.
(3)
آل عمران 7.
(4)
المسائل والأجوبة 48.
(5)
المصدر السابق 49 - 50.
فالقسم الثاني من اللغة، وهو الغريب، هو الذي بالمفسر حاجة إلى الاستشهاد عليه بشعر العرب ونثرها، ليتضح معناه، وتطمئن النفس إلى صحته وسلامته.
وقد ذكر الزركشي (1) قيدًا آخر عند حديثه عن التفسير الذي يرجع فيه إلى لغة العرب لفهمه، وهو أنه:«إن كان ما تتضمنه ألفاظها - أي اللغة - يوجب العمل دون العلم، كفى فيه خبر الواحد والاثنين، والاستشهاد بالبيت والبيتين، وإن كان مِمَّا يوجبُ العلمَ دون العمل لم يكف ذلك، بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر» (2).
وما ذكره الزركشي قد يُسَلَّمُ بصحته للناظرِ فيه لأولِ وَهْلَةٍ، ولكن عند تتبع الألفاظ الغريبة التي وردت في القرآن الكريم يجد أن ما ينبني عليه حكم شرعي عملي، يدخل في حيز القسم الأول، وهو الظاهر الذي لا يكاد يختلف فيه العرب، ولم يأت من الألفاظ الغريبة مِمَّا يترتبُ عليه حكمٌ علمي شيء يذكر، فكل ما يحتاجه المسلم المكلف في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، قد ورد بأوضح عبارة، وأجلى بيان، كي لا يكون على المسلم حرج في فهم ما كلفه الله به.
وأما ما ورد من الألفاظ الغريبة فإنه قد ورد في ثنايا القصص، والآيات الكونية، ونحو ذلك مِمَّا لا يتعلق به حكم اعتقادي أو عملي، ويمكن القول بأن الزركشي قد لجأ إلى هذا التقسيم احتياطًا منه، بأن لا يكتفى في تفسير ما يتعلق به حكم بما لا يكفي في إيضاحه وبيانه من
(1) هو بدر الدين محمد بن عبدالله بن بَهادُر الزركشي (745 - 794 هـ)، عالم متفنن ثقة، له مصنفات عديدة في علوم القرآن وأصول الفقه والفقه، ومن أهم كتبه كتاب البرهان في علوم القرآن وهو من أوائل المصنفات في هذا العلم. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 397، طبقات المفسرين للداوودي 2/ 162.
(2)
البرهان في علوم القرآن 2/ 306، وانظر 1/ 397.
الشواهد، وذلك حتى يصان القرآن الكريم من حمله على لغات شاذة من لغات العرب، وقد أَكَّدَ المفسرون على قاعدة جليلة من قواعد التفسير، وهي أنه يحمل كلام الله على الغالب الظاهر من لغة العرب لا على النادر؛ «لأن كتاب الله جل ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب، وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذ من لغاتها، وله في الأفصح الأشهر معنى مفهوم، ووجه معروف» (1).
ولا يَهُمُّ في الاستشهاد موضوع الشعر، فإنه يصح الاستدلال به على صحة اللغة ولو كان معناه فاحشًا، خلافًا لمن لا يرى ذلك. قال الجرجاني:«وقد استشهد العلماءُ لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش، وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك، إذ كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله» (2).
***
(1) تفسير الطبري (شاكر) 12/ 311 - 312، 15/ 175 - 176، 321، 333.
(2)
دلائل الإعجاز 12.