الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«دَلَكَتْ بِرَاحٍ» بكسر الباء: «فَمَن روى ذلك بكسر الباءِ فإنه يعني أَنه يضعُ الناظرُ كفَّه على حاجبهِ من شُعَاعها لينظرَ ما بَقي من غيابها، وهذا تفسيرُ أهلِ الغريبِ: أَبي عُبيدة، والأصمعيِّ، وأبي عمرو الشيباني، وغيرهم. وقد ذكرتُ في الخَبَر الذي رويتُ عن عبد الله بن مسعودٍ أنه قال حين غَربت الشمسُ: دَلكتْ بِرَاحٍ، يعني بِرَاحٍ مَكَانًا. ولستُ أدري هذا التفسير - أَعني قولَه: بِرَاحٍ مَكانًا - مِن كلامِ مَن هو مِمَّن في الإسنادِ، أو مِنْ كلام عبد الله؟ فإن يكنْ من كلام عبد الله فلا شكَّ أنه كان أعلمَ بذلك من أهل الغريب الذين ذكرتُ قولَهم، وأن الصواب في ذلك قولُه دون قولهم. وإن لم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربية كانوا أعلم بذلك» (1). فهو يذهب إلى تقديم قول ابن مسعود وطبقة الصحابة والتابعين على علماء اللغة في أمور اللغة أيضًا، لسبقهم وعلمهم.
والعرب ليسوا في فهم القرآن، والعلم به على درجة واحدةٍ، كما أنهم في معرفة لغتهم متفاوتون، فبعضهم أعلم بها من بعض، ومِنْ ثَمَّ احتيجَ إلى التفسير، ولذلك عندما سُئِل ابن قتيبة عن ذلك أجاب بأَنَّ «العربَ لا تستوي في المعرفة بِجَميع ما في القرآن من الغريب، والمتشابه، بل لبعضها الفضلُ في ذلك على بعضٍ .... ليس كلها تستوي في العلم به، ولا كلامها كله واضحًا عندها، بل منه المبتذل، ومنه الغريب الوحشي الذي إنما يعرفه العالم منهم» (2).
-
عناية المفسرين بالشعر وحفظه للاستشهاد
.
كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من علماء السلف أهل عناية بلغة العرب وشعرها، بل كانت عائشة رضي الله عنها، وابن عباس رضي الله عنهما من أحفظ الصحابة للشعر، وأكثرهم روايةً له، وقد استمر هذا النهج العلمي بعد ذلك، غير أنه قد أخذ في الاتجاه إلى التخصص، فَبَرزَ من بين العلماء
(1) تفسير الطبري (هجر) 15/ 28.
(2)
المسائل والأجوبة 48 - 50.
من عُنِيَ بالشعر الذي يشتمل على شواهد اللغة، وشواهد القرآن، وشواهد النحو وغيرها، حتى قال الجاحظ:«لم أَرَ غايةَ النحويين إِلا كُلُّ شِعْرٍ فيه إعرابٌ، ولم أر غايةَ رواة الأشعارِ إِلَّا كل شعرٍ فيه غريبٌ أو معنى صعبٌ يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعرٍ فيه الشاهد والمثل» (1). مما يشير إلى ظهور التخصص في حفظ الشواهد وطلبها مبكرًا، وقد حرصوا على هذه الشواهد، وتنافسوا في تدوينها، وسافروا في طلبها إلى البوادي، كل ذلك خدمةً للغة القرآن الكريم، ورغبة في تقعيد قواعدها خوفًا عليها من الاختلال.
وقد ذكر أصحاب التراجم شيئًا من أخبارهم في ذلك، فقد ذُكِرَ أنَّ أَبانَ بن تغلب (ت 141 هـ) كان لغويًا قارئًا، لقي العربَ وسَمِعَ منهم، وصنَّفَ كتابَ الغريب في القرآن وذكر شواهدَه من الشِّعر (2)، وذكر الأزهريُّ أَنَّ عليَّ بن المباركِ الأَحْمر (ت 194 هـ) كان يحفظُ ثلاثين ألفَ بيتٍ من الشعر من المعاني والشواهد (3)، وقد أخذها عنه ورواها أبو مسحل الأعرابي، وكان العلماء يأخذونها عنه، وقد ندم ثعلب أن لم يكن أخذها عن أبي مسحل (4).
وذكر أبو علي القالي أَنَّ محمدَ بن القاسم الأنباريِّ (ت 328 هـ) كان يَحفظُ ثَلاثَمائة ألف بيتٍ شاهدًا في القرآن (5)، ولم يُسمع بأحفظ منه لشواهدِ القرآنِ. وفي ترجَمة عبد الله بن عطية الدمشقي (ت 383 هـ) أنه كان يَحفظ خَمسين ألف بيتِ شِعْرٍ في الاستشهاد على معاني القرآن (6).
وذَكَرَ مُحمدُ بن أحمدَ الشَّنَّبوذِيُّ (ت 388 هـ) عن نفسهِ أنه يَحفظُ
(1) البيان والتبيين 4/ 24.
(2)
انظر: معجم الأدباء 1/ 67 - 68.
(3)
انظر: تهذيب اللغة 1/ 18.
(4)
انظر: إنباه الرواة 4/ 170.
(5)
انظر: معرفة القراء الكبار 1/ 281.
(6)
انظر: غاية النهاية 1/ 433، طبقات المفسرين للسيوطي 45، طبقات المفسرين للداوودي 1/ 246، طبقات المفسرين للأدنه وي 86.
خَمسينَ ألف بيتٍ من الشِّعرِ شواهد للقرآن (1)، وذكر الذهبيُّ أنَّ عبد الوهاب بنَ مُحمدٍ الشيرازيَّ (ت 500 هـ) صنَّفَ تفسيرًا للقرآن، ضَمَّنَهُ مائةَ ألف بيتٍ من الشواهد الشعرية (2)، وذكر السهيلي أنه رآه، وسمع ما فيه من الشواهد الشعرية المؤكدة لفصاحته (3).
ومع ما قد يكون في هذه الأخبار من المبالغة، إلا أنها تدل على عناية المفسرين، واحتفالهم بشواهد الشعر، لتكون عونًا لهم في تفسير القرآن، وشرح غريبه، والاحتجاج لقواعد اللغة ونحوها وصرفها. وقد أَكَّدَ المفسرون في كتبهم - ولا سيما في مقدمات التفاسير - على أهمية العناية بشعر العرب المُحتج به، في فهم القرآن الكريم، ومعرفة معاني ألفاظه من حيث العربية، ووجوب العناية به وفهمه للتمكن من فهم القرآن الكريم فهمًا صحيحًا، ومن ذلك قول الطبري في معرض حديثه عن أولى المفسرين بإصابة الحق في تفسيره:«فأحق المفسرين بإصابة الحق .... أوضحهم حجة فيما تأول وفسر .... وأصحُّهم برهانًا - فيما ترجم وبَيَّنَ مِن ذلك - مِمَّا كان مُدركًا علمهُ مِنْ جِهَةِ اللسانِ إِمَّا بالشواهدِ مِن أَشعارِهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة» (4). فبَيَّنَ الطبريُّ أهمية اعتضاد المفسر بالشواهد التي تصحح تفسيره، وتُبَرْهِنُ على صحة قوله، وقد سار الطبري على هذا النهج وسيأتي لذلك مزيد بيان.
وقد ذكر الإمام الواحدي (ت 468 هـ) المُفَسِّرُ أنه درس اللغة ودواوين الشعراء على شيخه العروضي ثم قال: «وقرأت عليه الكثير من
(1) انظر: معرفة القراء الكبار 1/ 333، طبقات المفسرين للسيوطي 97، طبقات المفسرين للداودي 2/ 60.
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء 19/ 249، طبقات المفسرين للداوودي 2/ 370.
(3)
انظر: طبقات المفسرين للأدنه وي 151.
(4)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 93.
الدواوين، وكتب اللغة، حتى عاتبني شيخي رحمه الله يومًا من الأيام، وقال: إنك لم تُبْقِ ديوانًا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز، تقرأه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداءُ من أقاصي البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار، يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله. فقلتُ: يا أبتِ إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أُحْكِمِ الأدب بِجِدٍّ وتَعَب، لم أَرْمِ في غَرضِ التفسيرِ عَنْ كَثَب
…
» (1). وقد ظهر أثر إجادة الواحدي للغة، وعنايته بدواوين الشعر في مصنفاته في التفسير، ولا سيما كتابه «البسيط» فقد أورد فيه عددًا كبيرًا من الشواهد الشعرية يستشهد بها في تفسير القرآن (2).
ويقول مَجْدُ الدين الرُّوذْرَاوَرِيُّ (3): «ومَنْ ظَنَّ أَنَّ القرآنَ يُفهمُ كما ينبغي من غير تحقيق كلام العرب، وتتبع أشعارهم، وتدبرها كما يجب فهو مُخطِئٌ. كان ابن عباس رضي الله عنهما حَبْرَ هذه الأمة، ومفتيها، ومفسِّرَ القرآن، وقد قال تلميذه عكرمة: أنه كان إذا سئل عن مشكل في القرآن يفسره ويستدل عليه ببيت من شعر العرب، ثم يقول: الشعر ديوان العرب» (4).
وليس المفسرون فحسب مَن اعتمدَ على الشعر في فَهمِ القرآن الكريم، بل شاركهم في ذلك غيرهم من أهل الحديث،
(1) مقدمة تفسير البسيط للواحدي 1/ 228 - 229، معجم الأدباء 3/ 560.
(2)
انظر: الواحدي النحوي من خلال كتابه البسيط للفراج 739.
(3)
هو مَجْدُ الدين عبدالمَجيد بن أبي الفرج الرُّوذْرَاوَرِيُّ نسبة إلى رُوذرَاوَر ناحية قرب نهاوند من بلاد فارس، المتوفى سنة 667 هـ، كان لغويًا مفسرًا، فصيحًا، حافظًا لأشعار العرب ولا سيما الشواهد منه. انظر: تذكرة الحفاظ 1476، شذرات الذهب 5/ 324.
(4)
مسألة {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ضمن كتاب بحوث ودراسات في اللغة العربية وآدابها، الجزء الثالث 1413 هـ ص 141.