الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
وقال الفراء أيضًا وهو يبين أحد معاني الظُّلْمِ في اللغة: «وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: 57](1) يقول: وما نَقَصُونا شيئًا مِمّا فعلوا، ولكن نقصوا أنفسَهم. والعربُ تقول: ظلمتَ سقاءَك، إذا سَقيتَه قبلَ أَن يَمخضَ ويَخْرُجَ زَبَدُه. ويقال: ظَلَمَ الوادي إذا بلغَ الماءُ منهُ موضعًا لم يكن لِينالَه فيما خلا، أنشدني بعضهم:
يكادُ يَطلعُ ظُلْمًا ثُمَّ يُمْسِكُهُ
…
عن الشواهِقِ فالوادي بِهِ شَرِقُ (2)». (3)
وهذا من الفراء استشهاد لغوي بالشعر على معنى الظلم، وأنه يأتي بمعنى النقص، وقد تقدم في الرسالة الإشارة إلى المعاني التي يدل عليها لفظ الظلم في القرآن الكريم، ومراعاة المفسرين لسياق الآيات في الاستشهاد بالشعر. (4)
وهناك عدد من الأمثلة في كتب معاني القرآن تعرضت لبيان معاني المفردات الغريبة؛ لتوقف بيان التركيب على بيانها (5)، غير أن العناية بالتراكيب كانت أغلب على كتب المعاني كما تقدم.
ثالثًا: الاستشهاد بالشعر
.
هذا الوجه من أوجه الموازنة بين كتب غريب القرآن وكتب معاني القرآن ذو علاقة ببحث الشاهد الشعري في التفسير، ولذلك تتبعت تعامل كل من الفريقين مع الشاهد الشعري، وظهر لي أَنَّهم جَميعًا يُعْنَون بالشاهد الشعري، ويحتل في كتبهم مكانة بارزة بين الأدلة التي يستدلون بها. ويزيد هذا أهميةً أن أبا عبيدة والأخفش والفراء من أصحاب هذه الكتب كانوا من رواة الشعر، ومِمَّن أخذ عن الأعراب وعن رواة الشعر الأوائل، ولذلك كان لشواهدهم الشعرية مكانةٌ خاصةٌ اعتمد عليها من جاء بعدهم من العلماء.
(1) البقرة 57.
(2)
البيت لعدي بن الرقاع العاملي، وهو في ديوانه 148.
(3)
معاني القرآن 1/ 397.
(4)
انظر: ص 336 من البحث.
(5)
انظر: معاني القرآن للفراء 1/ 152، 418، 212، 125، 335.
وقد تولَّى هذا الفصلُ من البحث - بِما فيه من مباحث سابقة على هذا المبحث ولاحقة - بيانَ منهج أصحاب كتب غريب القرآن ومعانيه في الاستشهاد والتوثيق والاعتماد على الشاهد الشعري بِما يُغني عن ذكره هنا، وأكتفي هنا ببيان الفرق بين المنهج الذي التزمه أصحاب كتب الغريب، وأصحاب كتب المعاني في استخدام الشاهد الشعري. ويمكن بيان ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: كانت عناية مؤلفي كتب «غريب القرآن» بالشاهد الشعري اللغوي أكثر من غيره، كما في «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، و «غريب القرآن» لابن قتيبة، وغيرها من كتب الغريب. في حين كانت عناية أصحاب كتب معاني القرآن بالشاهد النحوي أكثر كما في «معاني القرآن» للأخفش والفراء.
1 -
ومن أمثلة الشواهد اللغوية في كتب الغريب قول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200](1): «{وَرَابِطُوا} أي: اثبتوا ودُوموا، قال الأخطل:
ما زالَ فينا رِباطُ الخيلِ مُعْلَمةً
…
وفي كُليبٍ رِباطُ اللؤمِ والعارِ (2)». (3)
وهذا استشهاد لغوي لبيان معنى الرابط في الآية وأنه بمعنى الثبات والدوام والملازمة لطاعة الله حتى يأتي الأجل. وقد جاء الرابط بهذا المعنى في بيات الشعر الذي أورده للأخطل. وقد استشهد به أهل اللغة على ذلك. قال الأزهري: «وأصل الرباط من مرابطة الخيل، أي ارتباطها بإزاء العدو في بعض الثغور» . (4) وقال ابن منظوو: «والرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدوِّ، وأصلهُ أَن يربطَ كلُّ واحدٍ من الفريقين خيلَهُ، ثم صار لزوم الثغر رباطًا
…
والرباط: المواظبة على الأمر». (5)
(1) آل عمران 200.
(2)
انظر: ديوانه 234.
(3)
مجاز القرآن 1/ 112.
(4)
تهذيب اللغة 13/ 338.
(5)
لسان العرب 5/ 112 (ربط).
2 -
وقال أبو عبيدة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152](1): «{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} : تستأصِلونَهم قَتلًا، يقالُ: حَسَسْناهُم مِنْ عند آخرِهِم، أي: استأصلناهم، قال رؤبة:
إذا شَكَونا سَنَةً حَسُوسا
…
تأَكلُ بعدَ الأخضرِ اليَبِيسا (2)». (3)
ومثل ذلك قال أهل اللغة، فقال الأزهري:«الحَسُّ: القتلُ الذريع، وفي القرآن {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، أي: تقتلونهم قتلًا شديدًا كثيرًا» . (4)
3 -
وقال ابن قتيبة في غريب القرآن: «{يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} [الإسراء: 66](5) أي: يُسيّرها، قال الشاعر (6):
فتىً يُزجي المطيَّ على وَجاها (7)». (8)
فقد استشهد بالشعر على أن التزجية في الآية بمعنى تسيير السحاب وسوقه، ومثل ذلك قال أهل اللغة، حيث ذكر الأزهري عن الليث قوله: «التزجية دفع الشيء كما تزجي البصرة ولدها، أي تسوقه
…
والريح تزجي السحاب: أي تسوقه سوقًا رفيقًا». (9)
4 -
وقال ابن قتيبة أيضًا: «{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} [الطور: 23](10) أي: يَتعاطَون، قال الأخطل:
وشَاربٍ مُربحٍ بالكأسِ نازَعَنِي
…
لا بِالحَصُورِ ولا فيها بِسَوَّارِ (11)
أي: عاطاني». (12) وهذا أيضًا استشهاد لغوي لبيان معنى المنازعة
(1) آل عمران 152.
(2)
انظر: ديوانه 72.
(3)
مجاز القرآن 1/ 104 - 105.
(4)
تهذيب اللغة 3/ 405.
(5)
الإسراء 66.
(6)
هو القحيف العقيلي.
(7)
عجز بيت، صدره:
المَكشوحِ بعدكَ مَنْ يُحامِي
…
.............................
انظر: معجم الشعراء للمرزباني 211.
(8)
غريب القرآن 258.
(9)
تهذيب اللغة 11/ 155.
(10)
الطور 23.
(11)
انظر: ديوانه 20.
(12)
غريب القرآن 367.
في الآية، وأنها بمعنى المعاطاة باليد، كما في بيت الأخطل. وكما تقدم فالشاهد اللغوي هو الغالب على كتب غريب القرآن، وأمثلته كثيرة في كتب غريب القرآن. (1)
أما كتب معاني القرآن فقد غلب على شواهدها الشعرية الشاهد النحوي، وخاصة في معاني القرآن للفراء والأخفش. وأمثلته كثيرة جدًا في كتاب الفراء والأخفش لغلبة النحو عليهما.
1 -
ومن أمثلة هذه الشواهد النحوية عند الفراء، ما جاء عند تفسير قوله تعالى:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35](2) حيث قال: «إن شئت جعلت {فَتَكُونَا} جوابًا نصبًا، وإن شئت عطفته على أول الكلام فكان جزمًا، مثل قول امرئ القيس:
فقلتُ لهُ: صَوِّبْ ولا تُجْهِدَنَّهُ
…
فَيُذْرِكَ مِنْ أُخرى القَطاةِ فَتَزْلَقِ (3)
فَجَزَمَ». (4) وقد بَيَّنَ الفراء وجهَ كُلٍّ من النصب والجزم بعد ذلك فقال: «ومعنى الجَزْمِ كأَنَّهُ تكريرُ النَّهي، كقول القائل: لا تَذْهَبْ ولا تَعَرَّضْ لأحدٍ. ومعنى الجوابِ والنَّصْبِ لا تفعل هذا فيُفْعَلْ بكَ مُجازاةً. فلما عطفَ حرف على غير ما يشاكله، وكان في أوله حادث لا يصلح في الثاني نصب» . (5)
فيكون الجزم عطفًا على قوله: {تَقْرَبَا} كما في بيت امرئ القيس.
(1) انظر: مجاز القرآن 1/ 101، 87، 82، 79، 402، 412، 215، 190، 192، 193، 216، 341، 340، 355، 353، 347، 361 وغيرها، وغريب القرآن لابن قتيبة 368، 378، 127، 135، 26، 204، 85، 115، 115، 153، 148 وغيرها.
(2)
البقرة 35.
(3)
فَيُذْرِكَ: من أذريت الرجل عن الدابة والبعير إذا ألقيته. يعني: قلتُ للغلام: صوِّب الفَرسَ ولا تُجهدهُ، وخذ عفوَه ولا تَحملهُ على العَدْوِ فيصرعَكَ. والقطاةُ من الفَرَسِ موضعُ الرِّدْفِ. انظر: ديوان امرئ القيس 174، ونسب البيت لعمرو بن عمار الطائي. انظر: الكتاب 1/ 452، المقتضب 2/ 23.
(4)
معاني القرآن 1/ 26 - 27.
(5)
معاني القرآن 1/ 27.
ويكون النصب على أنه جواب النهي. (1)
2 -
ومن الأمثلة عند الفراء قوله: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36، 37](2) بالرفع، يرده على قوله:{أَبْلُغُ} . ومَنْ جَعَله جوابًا لـ «لعلَّ» نَصبَه، وقد قرأ به بعض القراء. (3) قال: وأنشدني بعضُ العَربِ:
عَلَّ صُروفَ الدَّهرِ أو دَولاتِها
…
يُدِلْلَنا اللمَّةُ مِنْ لَمَّاتِها
فتستريحَ النَّفسُ مِنْ زَفْراتِها (4)
فنصبَ على الجوابِ بِـ «لَعلَّ» . (5)
فقد استشهد الفراء بالشعر على أنَّ مَنْ قرأ: {فَأَطَّلِعَ} بالنَّصبِ فهو جوابٌ للترجي بـ «لعل» . وهذا وجه من ثلاثة أوجه في إعرابها، وهي:
الأول: أن ينتصب على جواب الترجي في «لعل» وهو مذهب كوفي ذكره الفراء، واستشهد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة عاصم:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)} [عبس: 3، 4](6) بنصب: {فَتَنْفَعَهُ} جوابًا لقوله: {لَعَلَّهُ} . كما استشهد بالشاهد الشعري السابق.
الثاني: أنه جواب الأمر في قوله: {ابْنِ لِي} [غافر: 36]، فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين.
الثالث: أنه منصوبٌ، عطفًا على التوهم، قال أبو حيان:«لأن خَبَرَ «لعل» جاء كثيرًا مقرونًا بأَنْ، كثيرًا في النظم، وقليلًا في النثر. فمَن نَصَبَ توهَّمَ أَنَّ الفعل المرفوع الواقع خَبَرًا منصوبٌ بأَنْ، والعطفُ على
(1) انظر: الدر المصون 1/ 286.
(2)
غافر 36 - 37.
(3)
القراءة برفع (فأطلعُ) هي قراءة نافع وحمزة وابن كثير والكسائي وأبي جعفر وشعبة عن عاصم. وقرأ حفص عن عاصم بالنصب (فأطلعَ). انظر: السبعة 570، النشر 2/ 365.
(4)
لم أعرف قائله، ومعظم من رواه نقلًا عن الفراء. انظر: التمام في تفسير أشعار هذيل لابن جني 253، الجليس الصالح للمعافى بن زكريا 3/ 120.
(5)
معاني القرآن 3/ 9.
(6)
عبس 3 - 4.