الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: الرد على التشكيك في الشعر الجاهلي وخطره على تفسير القرآن
.
العربُ أهلُ فصاحةٍ وبَيَانٍ، وأهل شِعْرٍ وخَطَابة، وقد «كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون» (1)، وقد أنزل الله القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وكان نزوله حادثة فريدة في تاريخ البشر، وفي تاريخ الأنبياء صلوات الله عليهم، ولذلك «
…
كان الذين آمنوا بهذا الكتاب - كتاب الله - هم العربُ الجاهليين أصحاب «الشعر الجاهلي» ، فصورة هذا العصرِ، وصُورُ رِجَالهِ أَسَاسٌ لا غِنَى عنه في قضيةِ صحةِ الشعرِ الجاهلي، وفي قضية صحةِ روايته» (2).
وقد تَحدَّى الله العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وكان إعجاز القرآن الذي تحدى الله به العربَ إعجازًا بيانيًا مرتبطًا بلغتهم العربية، التي يُمثِّلُ الشعرُ أعلى مُستوياتِها، ولا سيما شعر الجاهلية «الذي هو أقوى الشعر وأفحله» (3)، وهو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر العصور، فكان الطعن في هذا الشعر طعنًا في لغة القرآن، وطعنًا في شواهدها التي عَوَّلَ عليها المفسرون، وذلك لأنَّ مطالبة العرب بأن يؤمنوا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولٌ من الله أرسله إليهم، يبلغهم عن ربهم،
(1) طبقات فحول الشعراء 1/ 24.
(2)
قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود شاكر 104.
(3)
الصناعتين 137.
حقيقة تاريخية واقعة لا شك فيها؛ لأنه «مُحالٌ أن يفجأ الله عباده من عَربِ الجاهلية بهذا التبيُّنِ الذي طالبهم به، وهم خِلْوٌ من القدرة عليه، فكان لزامًا أن تكون لهم قدرة يعلمها سبحانه فيهم، وإن جهلوها هم من أنفسهم من قبل أن يطالبوا بهذا التبين، وإلا يكن ذلك كذلك، كانت المطالبة تعجيزًا محضًا لعباده، يسقط منهم التكليف الذي تقتضيه هذه المطالبة» (1).
وقد تعرض هذا الشعر في العصور المتأخرة إلى الطعن في صحته من قبل عدد من الباحثين من المستشرقين والعرب، ونظرًا لما لهذا الطعن من خطر على ما يرتبط بهذا الشعر من الاستشهاد به في تفسير القرآن الكريم، كان من الضروري التعرض لهذه المسألة بشيء من الاقتضاب الذي يعطي صورة واضحة للمسألة، وذلك في النقاط التالية:
أقسام الشعر الجاهلي من حيث الصحة:
الشعر الجاهلي كغيره من جوانب تاريخ الجاهلية كان يعتمد الرواة في نقله على الحافظة، والرواية الشفوية في معظمه، وقد اعتراه ما اعترى غيره من المسموعات من اختلافٍ في الرواية، أو تزيُّدٍ فيها أو في بعضها، وربَّمَا تعرَّضَ للوضعِ والاختلاق، ولذلك يُمكنُ تقسيم الشعر الجاهلي من حيث الصحة ثلاثة أقسام:
الأول: شعر صحيح لا سبيل إلى الشك فيه، وهو الذي أجمع العلماء الثقات على صحته، وفقًا لخبرتهم بهذا الشعر، وكانوا كثيرًا ما يعتمدون على حسهم الشعري النقدي، الذي اكتسبوه بعد معاناة شاقة في جمع تلك المادة ودراستها، التي أثمرت معرفة واسعة في تمييز صحيح الشعر من منحوله، ومن ذلك أنَّ حمادًا
(1) قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام 111.
الراوية أنشد بلال بن أبي بردة شعرًا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال ذو الرمة: جيد، وليس له! قال بلال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري، إلا أنه لم يقله، فلما قضى بلال حوائج حماد، قال له: أنت قلت هذا الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم، وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أن ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام (1)، ولذلك ذهب ابن سلام إلى أن ما اتفق عليه العلماء فليس لأحد أن يخرج منه (2).
وما ذاك إلا لقوة تلك الملكة النقدية التي تميز بها العلماء والرواة في زمن الرواية الأول، والتي جعلت خلفًا الأحمر يقول حينما قال له قائل: إذا سمعتُ أنا بالشعر أستحسنه، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك، فقال خلف رادًا عليه: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصرَّافُ: إنه رديء، فهل ينفعك استحسانك له؟ (3).
وهذا القسم يُمثِّلُ جُلَّ المحفوظِ مِن شعر الجاهلية، وهو الذي اعتمد عليه المفسرون واللغويون والنحويون في الاستشهاد والاحتجاج، وقد حُفظ عبر الرواية الصحيحة، واستقر في الدواوين الموثوقة حتى اليوم.
الثاني: شعر منحول مصنوع:
وهو شعر ساقط، لا يعتد به، تعددت أسباب وضعه فمنه ما وضعه القُصَّاص؛ لتحسين قصصهم بالشعر، إذ كانوا على معرفة تامة بمحبة العربي للشعر، وكان الشعر بمثابة الدليل على تأكيد صحة ما يقولون، ولذا وضعوا شعرًا على لسان آدم والأنبياء والعرب البائدة (4).
(1) انظر: الأغاني 6/ 88.
(2)
انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 4.
(3)
طبقات فحول الشعراء 1/ 7.
(4)
انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 5.
وهناك أشعار وضعت على ألسنة الحيوانات (1)، وأشعار سبب نحلها العصبية القبلية، ورغبة أفراد القبيلة في رفع شأن عشيرتهم، فيذكرون من الأمجاد والوقائع ما ليس لهم (2).
والذي يعني البحث أن هذا الضرب من الشعر ساقط لا يُحْتَجُّ ولا يُستشهد به على ألفاظ القرآن ولا تفسير آياته، ولذلك يقول ابن سلام: «وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته
…
وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد - إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه - أن يقبل من صَحِيفَةٍ، ولا يروي عن صَحَفي» (3).
وهذا القسم قد مَحَّصه العلماء، وأسقطوه من المصنفات منذ العصور المتقدمة، ومن ذلك أن ابن هشام (ت 218 هـ) قد أخذ على عاتقه مهمة تنقية سيرة ابن إسحاق مما شابها، فتعقب ابن إسحاق ونقد الشعر الذي أورده، وبيَّنَ الفاسدَ الموضوعَ وأسقطه، وأوضح نقد العلماء له، وذكر الروايات الصحيحة (4).
ولم يكن لهذا الضرب من الشعر تأثير في شواهد التفسير، بحيث يُشكِّلُ عِلَّةً قادحةً تُعَلُّ بِها قضية الاستشهاد بالشعر، وذلك لندرته في كتب التفسير، ومن أمثلته النادرة ما أورده المفسرون في مواضع متفرقة من تفاسيرهم، وهو قول الشاعر:
فَأَنْكَرتني ومَا كانَ الذي نَكِرَتْ
…
مِن الحوادثِ إِلَّا الشَّيبَ والصَّلعَا
فقد استشهد به المفسرون (5)، في حين قد اعترف أبو عمرو بن
(1) انظر: الكامل 2/ 731.
(2)
انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 46.
(3)
المصدر السابق 1/ 4.
(4)
انظر: السيرة النبوية 1/ 4.
(5)
مجاز القرآن 1/ 293، تفسير الطبري (هجر) 12/ 472، 23/ 595.